محمد يسري:
على الرغم من أن العامة كانوا في معظم فترات التاريخ الإسلامي من المهمشين الذين ليس لهم أي دور أو تأثير في اتخاذ القرارات السياسية في الدولة، فقد كان لطبقة "العيّارين والشطّار" على وجه التحديد العديد من المواقف السياسية المميزة والملحوظة إلى درجة حدت بعض الباحثين لاعتبارهم طبقة ثورية قامت على أساس المساواة ومعاداة الأرستقراطية الطبقية.
هذا النشاط السياسي التاريخي لتلك الطبقة، يمكن لمسه وتفهمه من خلال تحليل التبدل الدلالي لكلمة "الشطّار"، إذ فقدت الكلمة حمولتها السلبية اللغوية المجردة التي لطالما دمغتها في العصور الوسيطة لمصلحة دلالة إيجابية جديدة للكلمة، يجعلها مترادفة لمعاني المهارة والتفوق والنجاح.
من هم العيّارون والشطّار؟
بحسب ما ورد في "القاموس المحيط" لمجد الدين الفيروز آبادي، فإن العيّار هو النشيط، الكثير الحركة، أما الشطّار، فهو جمع شاطر، أي الشخص الذي "أعيا أهله ومؤدبه خبثاً ومكراً"، وفق ما يذكر مرتضى الزبيدي في كتابه "تاج العروس".
يظهر مصطلح "العيّارون والشطّار" للمرة الأولى في المصادر التاريخية الإسلامية في نهايات القرن الثاني الهجري، في معرض الحديث عن الحرب الأهلية التي اندلعت بين الخليفة محمد الأمين وأخيه عبد الله المأمون، وكان المقصود بذلك المصطلح في ذلك الوقت، الإشارة إلى مجموعات كثيفة العدد من العامة والدهماء والغوغاء والمسجونين الذين تنوعت أصولهم العرقية بين العربية والفارسية والتركية، وعاشوا في أحياء بغداد الفقيرة، وقبعوا في الدرك الأدنى من السلم الاجتماعي.
العديد من الباحثين أقروا أن العيّارين والشطّار في المجتمع الإسلامي كانوا في حقيقة الأمر امتداداً لطبقة الصعاليك الذين كانوا موجودين في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام، هؤلاء الصعاليك الذين تشكلوا من "الفقراء والخلعاء والعزباء الذين خرجوا عن النظام القبلي" وكانوا يتبعون القوافل التجارية الضخمة ويستولون عليها، ويوزعون أسلابها في ما بينهم، كما يذكر الدكتور محمد رجب النجار في كتابه "الشطّار والعيّارون: حكايات في التراث العربي".
ويؤيد حقيقة الصلة بين الصعاليك من جهة والعيّارين والشطّار من جهة أخرى، ما وصف به الزمخشري الصعاليك في كتابه "أساس البلاغة" من كونهم "شطّار العرب في الجاهلية".
مع مرور الوقت، تطورت طبقة العيّارين والشطّار في العراق، فأضحى لهم لباس معين يميزهم من غيرهم، إذ يذكر الدكتور محمد سعيد رضا في بحثه المعنون "حركة العيّارين والشطّار: العنف المدني في المجتمع العباسي خلال القرن الرابع الهجري"، أنهم كانوا يحلقون رؤوسهم، ويضع كل منهم خوذة من الخوص على رأسه، كما كانوا يتعرون بشكل كامل، فلا يرتدون إلا خرقة صغيرة في وسطهم، وكانوا دوماً يحملون معهم الحبال.
وبحسب البحث نفسه، فإن العيّارين كانوا ينظمون احتفال ترحيب عند انضمام أي فرد جديد لهم، وكانوا يرسّمونه عضواً في جماعتهم من خلال إلباسه سراويل معينة، تُعرف باسم سراويل الفتوة.
من المهم هنا الإشارة إلى أن أسماء العيّارين والشطّار وتوصيفات ملابسهم وعاداتهم الاجتماعية، قد اختلفت إلى حد بعيد من مكان إلى آخر.
على سبيل المثال، عُرف الشطّار في بلاد الشام بالأحداث والفتيان، وأُطلقت عليهم في مصر أسماء العُيّاق والجعيدية والحرافيش والزعّار، وبرغم تلك الاختلافات في الأسماء، ظل المسمى -في معظم الأحيان- يشير إلى تلك الفئات المُهمشة التي اتجهت للسرقة من الأغنياء والطبقات الأرستقراطية على وجه الخصوص.
العيّارون والشطّار على مسرح الأحداث السياسية
يمكن القول إن الدور السياسي الواضح لطبقة العيّارين والشطّار قد بدأ مع حصار القوات الفارسية التابعة لعبدالله المأمون لبغداد عام 198 هـ، إذ يذكر المسعودي في "مروج الذهب" أن الخليفة محمد الأمين لما وجد جيوشه النظامية قد هُزمت أمام جيوش أخيه، استعان بالكثير من الأوباش والشطّار واللصوص، فأخرجهم من السجون، ونظمهم على هيئة جيش نظامي، فقد كان كل عشرة منهم تحت قيادة عريف، ووضع كل عشرة عرفاء تحت قيادة نقيب، وانتظم كل عشرة نقباء تحت قيادة قائد، أما الأمير فكان يشرف على عشرة من القادة.
بحسب المسعودي، فقد وصل عدد هؤلاء الشطّار المدافعين عن بغداد إلى نحو 100 ألف جندي، وكان أهم قائد لهم يُدعى حاتم بن الصقر، وهو شخص شبه مجهول، لا تقدم المصادر التاريخية أي معلومات عن تفاصيل حياته.
اهتم ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" بوصف تفاصيل الاضطرابات التي أحدثها الشطّار في بغداد في تلك الفترة، فقال: "وذل الأجناد –يعني الجند النظامي في جيش الأمين- وضعفوا عن القتال إلا باعة الطريق، والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين وأهل السوق، فكانوا ينهبون أموال الناس".
عام 230 هـ، ظهر تأثير عامة بغداد مرة أخرى على الساحة السياسية، عندما قامت جماعة كبيرة منهم، وتسميها المصادر التاريخية باسم "المطوعة"، بالاتصال بأحد الفقهاء المعارضين للقول بخلق القرآن وهو أحمد بن نصر الخزاعي، "فبايعوه في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته، ودعوته إلى القول بخلق القرآن...".
وقيل إن تلك الحركة قد لقيت نجاحاً كبيراً في بدايتها، حتى دانت الكثير من أحياء بغداد بالطاعة لأحمد بن نصر، وافتكت نفسها من قبضة العباسيين، بحسب ما يذكر كل من ابن الجوزي وابن كثير. ولكن سرعان ما فشلت تلك الحركة، واُقتيد الخزاعي لبلاط الخليفة الواثق بالله، الذي قتله بنفسه، وعُلق رأسه منصوباً على مرأى من الناس، بحسب ما يذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك".
عام 251 هـ، ظهر العيارون مرة ثالثة عندما استعان بهم الخليفة العباسي المستعين بالله، وأوكل إليهم مهمة الدفاع عن بغداد أمام الجند الأتراك الذين انقلبوا عليه، ونصبوا المعتز بالله خليفة جديد في سامراء، وقد أشاد ابن الأثير بشجاعتهم في تلك الفترة، فقال: "وقد ثبتوا –يقصد الشطّار- في حين أن أهل بغداد ولوا الأدبار وتركوا قتلاهم وجرحاهم".
أما في القرن الرابع، ومع انهيار سلطة الخلافة العباسية، وبسط البويهيين نفوذهم على بغداد، فقد تضخمت أعداد الشطّار، حتى أن الجغرافي أحمد بن محمد المقدسي تحدث في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" عنهم، وقال: "إنهم إذا تحركوا ببغداد، أهلكوا".
ويبدو أن كثرة أعدادهم قد أوقعت الفوضى والاضطراب والخلاف بين صفوفهم، إذ يذكر مسكويه في كتابه "تجارب الأمم وتعاقب الهمم" أحداث عام 361 هـ قائلاً: "وحصل في كل محلة عدة رؤساء من العيّارين، يحامون على محلتهم، ويجبونهم الأموال، ويحاربون من يليهم، فهم لذلك متحاقدون، يغزو بعضهم بعضاً نهاراً وليلاً ويحرق بعضهم دور بعض ويثير كل قوم على إخوانهم وجيرانهم".
ولم تنته تلك الفوضى العارمة في العراق، إلا بعد أن قام البويهيون بالقبض على بعض قادة العيّارين "وقتل أربعة منهم، وأُعطي من بقي الأمان ووعدهم بالرزق وكف البلاء قليلاً وسكنت الفتنة"، بحسب ما يذكر ابن الأثير.
قوة العيّارين وصلت لذروتها في فترة ضعف البويهيين، إذ يذكر رجب النجار في كتابه السابق الذكر، أن الدولة لما وجدت نفسها غير قادرة على ردعهم، اتبعت سياسة جديدة معهم تقوم على مصانعة قادتهم وزعمائهم، بل عهدت إلى بعضهم، من أمثال كل من ابن حمدي وعمران بن شاهين وضبة بن محمد الأسدي وابن مروان وابن فولاذ، بعض المناصب الإدارية المهمة في الدولة.
ويذكر ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"، في أحداث عام 426 هـ، أن أمر قائد الشطّار أبا علي البرجمي كان قد استفحل وعظم، حتى أن عامة أهل بغداد ممن كانوا يؤدون صلاة الجمعة رفضوا أن يدعو إمام المسجد للخليفة والسلطان كما جرت العادة، وقالوا له "إن خطبت للبرجمي وإلا فلا تخطب لخليفة ولا ملك".
طبقة الشطّار شاركت أيضاً في الأحداث السياسية خارج العراق، ففي بلاد الشام، لعب الشطّار دوراً مهماً في فترة الحروب الصليبية، ولعل مقاومتهم قوات الحملة الصليبية الثانية المحاصرة لدمشق عام 543 هـ، كان أهم أدوارهم على الإطلاق.
أما في مصر، فيحدثنا ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" عن طبقة الحرافيش التي أجبرت بعض سلاطين المماليك على عزل الموظفين الظالمين أحياناً، كما أنهم اشتركوا أحياناً في المعارك مع المماليك جنباً إلى جنب، ومن ذلك ما وقع في معركتي مرج دابق والريدانية.
كيف احتفى المخيال الشعبي بالشطار والعيارين؟
حظي الشطّار بمكانة متميزة في المُخيلة الإسلامية الشعبية، إذ نُظر إليهم على أنهم من أصحاب المبادئ والقيم.
على سبيل المثال، يذكر المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري في كتابه "دراسات في العصور العباسية المتأخرة" أن الشطّار كانت "لهم أهداف ثورية ولم تكن غايتهم مجرد اللصوصية والقتل".
من جهته، وصفهم النجار في كتابه بأنهم "كانوا أصحاب قضية وتميزوا بآداب وتقاليد وسمات تميزهم من سمات اللصوص –بالمعنى اللغوي والقانوني- مثل الشجاعة والمروءة والشهامة والنجدة والصبر على المكاره والبعد عن الشهوات، والمحافظة على المحارم والوفاء بالوعد والحفاظ على العهد، وعدم التعرض لأي شخص استسلم لهم...".
عليه، لم يكن من الغريب أن يحتفي الأدباء والقصاص بالشطّار في أعمالهم الفنية الإبداعية، ومنها على سبيل المثال قصص ألف ليلة وليلة التي ظهر فيها الشطّار في صورة أبطال شجعان، يبادرون إلى حماية الضعيف والثورة على الظالمين.
كذلك في السير الملحمية، نجد شاطر الشام جمال الدين شيحة الذي اشتهر بملاعيبه وحيله المثيرة للإعجاب، وفي سيرة الظاهر بيبرس يظهر اسم عثمان بن الحبلى، شاطر مصر، الذي لطالما عجزت الدولة عن التصدي لخطره، والذي صار صديقاً مقرباً لبيبرس.
ويذكر الدكتور إبراهيم عبد العليم حنفي، في كتابه" البنية الأسطورية في سيرة الظاهر بيبرس"، خصوصية ابن الحبلى ورمزيته في السردية الشعبية المصرية.
يقول حنفي: "أظهرت السيرة عثمان بن الحبلى نموذجاً للبطل الشعبي ابن البلد، وجعلت منه حياة اللصوصية التي يعتليها، ويمسك بلجامها جيداً وسيلة بتمرده الاجتماعي والسياسي، فكان يمثل نسقاً اجتماعياً فريداً...".
في السياق نفسه، تعد سيرة علي الزيبق من أهم السِير الشعبية التي اهتمت بأخبار العيّارين والشطّار، إذ تم تناول أخبار تنافس الزيبق مع المقدم سنقر الكلبي والمقدمة دليلة العراقية، ونجحت هذه السيرة في كسب اهتمام العوام وأهل مصر، لكونها مثلت متنفساً لما يحسون به من شعور بالظلم والجور.
من الملاحظات المهمة هنا أن ثمة بعض الإشارات التي تؤكد أن الزيبق كان شخصية تاريخية حقيقية، فعلى سبيل المثال، يذكر ابن الأثير في معرض تأريخه أحداث عام 444 هـ: "وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة في بغداد، وامتنع الضبط وانتشر العيارون وتسلطوا وجبوا الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان في مقدمهم الطقطقي والزيبق...".
العقل الشعبي اختار أن يستعيد ذكرى الزيبق التي ترجع إلى القرن الخامس الهجري، فأعاد إحياء سيرته في العصر العثماني، وأضفى عليها طابعاً مميزاً من الخيال والفكاهة، إذ تم تصوير الزيبق أحد العيّارين الشطّار الذين يسرقون من قادة الجند العثماني الظالمين، ليعيدوا الحق إلى الفقراء.
وكما في باقي السِير الشعبية، تم تصوير صراع الزيبق والكلبي امتداداً لصراع أقدم، إذ تحدثت السيرة الشعبية عن حسن رأس الغول، والد علي الزيبق الذي يواجه الكلبي الظالم، ويُلحق به الهزيمة مراراً وتكراراً، إلى أن يقتله الكلبي، فتفر أرملته فاطمة الفيومية من مكان إلى آخر، بعيداً عن عيون العثمانيين المترصدة، وتهتم بتعليم ابنها فنون القتال والمبارزة والشجاعة، وتخفي عنه حقيقته، إلى أن توقعه الأقدار في ما بعد في مواجهة الكلبي، وتبدأ رحلة البحث عن الثأر القديم.
رصيف 22