بقلم د. عماد بوظو
مع ضعف الدولة العثمانية في أواخر أيامها تأسس بموجب "الامتيازات الأجنبية" التي حصلت عليها الدول الأوروبية عدد من المدارس يديرها ويمولها الأوروبيون، كما تم السماح لطوائف محلية بتأسيس مدارس خاصة. لذلك تم افتتاح مجموعة من المدارس للطوائف المسيحية كالآسية في سورية، والفرنسيسكان في بلاد الشام ومصر، وعلى المبدأ نفسه تم تأسيس مدارس الفرير واليسوعية والمحبة واللاييك وغيرها. ومن المدارس التي تأسست مدارس الإليانس التي أنشأتها جمعيات يهودية والتي تم افتتاحها منذ منتصف القرن التاسع عشر في المغرب والعراق ومصر وسورية وفلسطين ولبنان. وصل عدد مدارس الإليانس في مصر إلى 123 مدرسة، وبلغت أعداد طلابها عشرات الآلاف، وفي مرحلة لاحقة أضيفت المدارس الإنكليزية والأميركية بإشراف مجلس الوكلاء الأميركي للإرساليات الأجنبية.
أدخلت هذه المدارس التعليم الحديث إلى هذه المنطقة على حساب الكتاتيب التي كان تعليمها يقتصر على قراءة وكتابة اللغة العربية والقرآن ومبادئ الحساب الأولية.
توسعت هذه المدارس خلال فترة الانتداب الأجنبي، وكان طلابها من مختلف الديانات والطوائف. في مصر كان نصف الطلاب والمعلمين والعاملين في مدارس الفرنسيسكان من المسلمين، ونتيجة مستواها المتميز في المواد العلمية والثقافية والمجالات الأخرى كاللغات والفنون والرياضة، حرصت كبريات العائلات على تسجيل أبنائها فيها.
حافظت هذه المدارس على تميزها حتى فترة ما بعد الاستقلال وأصبح القبول فيها مرتبطا بالمستوى المتفوق للطالب والوضع الاقتصادي والاجتماعي لعائلته بغض النظر عن انتمائه الديني.
تخرجت من هذه المدارس الدفعات الأولى من القادة السياسيين والطبقة الثقافية التي طبعت حياة مجتمعاتها طوال قرن كامل بالمفاهيم العصرية والانفتاح الاجتماعي والرغبة بالمعرفة والتطور للحاق ببقية العالم.
أما في ظل الحكومات العسكرية في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد تم تأميم هذه المدارس في بعض البلدان، كما تم فرض مناهج المدارس الحكومية عليها ولكنها بقيت متميزة نسبيا من ناحية المستوى الجيد لتعليم اللغة الأجنبية مع آثار لبقايا الانفتاح الاجتماعي الذي كانت تتميز فيه.
مع تراجع دور المدارس الخاصة ذات البرامج العلمية الحديثة والعصرية وغيابها، بدأت بالظهور مدارس من نوع آخر مختلف جوهريا؛ والمقصود المدارس التي يتم فيها التركيز على الموضوعات الدينية. من الأمثلة، مجمع الشيخ أحمد كفتارو في دمشق الذي يتضمن كلية شرعية والمعهد الشرعي للدعوة والإرشاد للمرحلتين الإعدادية والثانوية وقسم الدراسات العليا الذي كان ينتسب إليه سنويا آلاف الطلاب. وأصبحت هذه المدارس مكانا مناسبا لكل من لا ينال علامات كافية تؤهله للالتحاق بالتعليم العام، أو لمن لا يريد لابنته الذهاب إلى المدارس العادية خوفا من "الفساد" حسب رأيه. لذلك تزايد عدد طلاب هذه المعاهد سنويا. وظهرت في دمشق مجموعة دينية نسائية دعيت بـ"القبيسيات" على اسم المؤسسة منيرة القبيسي؛ افتتحت في البداية دارا للحضانة بمنطقة راقية في دمشق. كانت جميع الموظفات محجبات وكانت هناك درجة جيدة من الاعتناء بالأطفال مع اهتمام خاص بتدريس الدين والقرآن. انتشر وتوسع خلال فترة قصيرة هذا النموذج من المدارس. ثم أضيفت المرحلة الابتدائية إلى دور الحضانة، حتى أصبحت هذه الحركة تمتلك نصف المدارس الخاصة في أحياء دمشق الغنية. وسرعان ما افتتحت فروعا لها في مدن سورية أخرى وحتى في بلدان أخرى.
على نمط مشابه تم افتتاح كثير من المدارس الخاصة في كامل الشرق الأوسط وشمال أفريقية؛ في الأردن اتخذت إحدى روضات الأطفال في عمّان شعارا لها على موقع فيسبوك "من الروضة نبدأ إلى الجنة ننتهي". هذا شعار غريب لأطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات، وقد انتقدت إحدى الأمهات هذه المدرسة قائلة: "رغم أن المدرسة تحتوي على مجمع رياضي ومسبحين غير أن الأطفال كانوا يقضون وقتهم هناك جالسين لأن الزي الذي ترتديه معلمة الرياضة وهو الجلباب لا يناسب أي رياضة، كما أن ما ترويه المعلمة من قصص مرعبة للأطفال لحثهم على الالتزام بالصلاة والواجبات الدينية لا يناسب أعمارهم، وكذلك الإفراط باستخدام مصطلح كافر على كل من يختلف عنهم، بالإضافة لفصل الأمهات عن الآباء في احتفالات المناسبات المدرسية". كانت الرسوم في هذه المدارس مرتفعة، فقد استطاعت هذه الجمعيات الدينية بطريقة ما التوفيق بين الدعوة الإسلامية والبزنس التجاري المربح.
في الجزائر انتشرت أنواع مشابهة من المدارس اسمها المدارس القرآنية. بلغ عددها 2500 بينها أكثر من 300 مدرسة خاصة يتم فيها تدريس القرآن واللغة العربية وعلوم الشريعة. تنتشر هذه المدارس بذريعة التصدي لمحاولة "فرنسة" العملية التعليمية، ويتقاسم السيطرة على هذه المدارس حركة مجتمع السلم القريبة من الإخوان المسلمين والتيار السلفي الأكثر تشددا.
لا يمكن مقارنة وضع التعليم الديني في كل الدول الإسلامية بالوضع في مصر حيث لدى مؤسسة الأزهر أكثر من مليوني طالب في مرحلة ما قبل الجامعة بالإضافة لنصف مليون من طلاب الجامعات. كما أن للأزهر عشرة آلاف معهد تعليمي مختلف تمكنه من السيطرة على نسبة معتبرة من العملية التعليمية في مصر، بالإضافة لوجود أعداد كبيرة من المدارس الخاصة التي تحمل اسم الإسلامية، وبعضها يستخدم ذلك الاسم لاجتذاب شريحة معينة من المجتمع وبعضها مدارس لها علاقة بشكل أو آخر مع تنظيمات سياسية إسلامية.
أما المدارس الإسلامية في تركيا فهي موضوع آخر بحاجة لدراسة خاصة؛ إذ تعبّر حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم علانية عن مشروعها وهو تشكيل جيل متديّن وجعل الدين محور الحياة في تركيا. وقد نقلت وكالة رويترز أن الإنفاق على مدارس الإمام الخطيب الثانوية الإسلامية سيتضاعف إلى 1.68 مليار دولار حتى نهاية عام 2018 أي ربع إجمالي الإنفاق على المدارس وضعف ما ينفق على المدارس العادية. وارتفع عدد طلاب هذه المدارس للمرحلة الإعدادية منذ عام 2012 خمسة أضعاف ليبلغ 1.3 مليون طالب في أكثر من 4000 مدرسة.
لم يؤد الدعم الحكومي لهذه المدارس إلى تحسن مستواها، حيث أن 18 في المئة فقط من خريجي هذه المدارس الدينية تمكنوا من الالتحاق في فروع علمية في الجامعات، مقابل 35 في المئة من المدارس العامة العادية. نتيجة ذلك تراجعت تركيا 8 مراكز في مسح الأداء الأكاديمي في العلوم والرياضيات خلال ثلاث سنوات لتصبح في المرتبة 50 من أصل 72 دولة.
وسبق الداعية التركي فتح الله غولن الرئيس أردوغان في إدراك أهمية التعليم في السيطرة على المجتمع من خلال ما أسماه الإسلام الاجتماعي كبديل عن الإسلام السياسي الذي يهدف للوصول للسلطة، بينما الثاني يهدف للسيطرة على المجتمع وبشكل خاص عبر التعليم. ولذلك افتتح غولن مئات المدارس في تركيا وأعدادا مماثلة من المدارس خارجها. كانت أفكار غولن المعلنة تلقى ترحيبا من الغرب باعتباره مسلما عصريا، وقد تسرب تسجيل لغولن يقول فيه لبعض المقربين منه إنه يعمل تدريجيا على بناء نظام إسلامي في تركيا. ثم بدأت حربه المعروفة مع أردوغان، وعلى إثرها أغلقت الحكومة التركية أكثر من ألف مدرسة لغولن وسرحت أكثر من عشرين ألف من مدرّسيها.
لا تختلف قصة باكستان عن بقية الدول الإسلامية. فقد تم تأميم المدارس الأجنبية في السبعينيات فتراجع مستوى التعليم العام فيها. مؤخرا، ظهر نموذج جديد للتعليم الديني يتجاوب مع رغبة طبقة من الأثرياء المحافظين لدمج التعليم الإسلامي "حفظ القرآن وتعلم اللغة العربية" بالتعليم الخاص ذي المستوى العلمي المرتفع، فافتتحت أعداد كبيرة من المدارس الدينية، ومنها ما تجاوز تعليم القرآن واللغة العربية إلى تدريس منهاج إسلامي شامل.
قبل بضعة عقود أممت حكومات الدول الإسلامية المدارس الخاصة ذات المستوى العالي علميا وثقافيا والتي تنشر قيم الحداثة والعصرنة وتفتح جسورا للتواصل مع العالم المتطور ومفاهيمه عن الحرية والديموقراطية والعدالة والسعي وراء المعرفة وحب الحياة والاستمتاع بالفنون والمنافسات الرياضية للفتيان والفتيات. وشجعت أو تغاضت عن افتتاح المدارس الدينية التي تهتم بالتدين الظاهري كالحجاب واللحية وطابع الصلاة على الجبين وأي الأدعية أنسب عند كل حركة أو تصرف وتكرار الصغار للسور لمئات المرات بدون تفكير. لا تدرس في هذه المدارس الفنون والموسيقى، باعتبارها محرمة شرعا. ولا اهتمام بالرياضة، باعتبارها هدر للطاقات. وتختلف رؤية هذه المدارس للعلوم الإنسانية كالفلسفة وعلم الاجتماع والآداب واللغات عن بقية العالم، وحتى في العلوم التطبيقية لا يمكن اعتبار هذه المدارس مميزة.
لم يكن للحركات الدينية المشرفة على هذه المدارس أي برامج سياسية محددة، بل كانوا حلفاء دائمين للسلطات السياسية في بلادهم؛ مثل موقف مؤسسة كفتارو والبوطي والقبيسيات المؤيد للنظام السوري ضد الثورة الشعبية، أو علاقة مؤسسة الأزهر المتينة مع السلطات السياسية المتعاقبة في مصر.
فهذه الحركات ترى أن مهادنة السلطات السياسية هي التي تسمح لها بالعمل على أسلمة المجتمع. ونجحت حركات التدين الظاهري هذه حتى الآن بالسيطرة على المجتمع، وتراجع مستوى الثقافة والرغبة بالمعرفة وتغير مظهر وملبس أبناء وبنات هذه البلدان، وتوضح المقارنة بين شكل المجتمع اليوم وما كان عليه الوضع قبل خمسين سنة هذا الفارق بشكل ساخر؛ كأن تأتي فتاة محجبة اليوم بصورة لجدتها وهي ترتدي الشورت القصير في مباراة لكرة السلة، أو وهي ترقص مع شاب في حفلة مختلطة، أو مشهد مدرج الجامعة المليء بالطالبات المحجبات اليوم والمدرج نفسه قبل بضعة عقود تطغى عليه صورة المرأة المتحررة القوية الواثقة من نفسها.