خالد سليكي من أمريكا
في الدراسة التي أنجزتها إيفون حداد حول خصوصيات المسلمين في أمريكا، لاحظت أن من القضايا التي تطرحها هذه الأقلية الانقسامات التي تعرفها الجالية الإسلامية، خصوصا تلك التي تشهدها المساجد. وتشير من خلال شهادة موثقة في الصفحة 39(Islamic values in the united states) ، على لسان إحدى المسلمات، إلى التحولات العميقة التي عرفتها فضاءات المسجد، والطابع المؤسساتي الذي بات يهيمن على المجالين الروحي والدنيوي في كل ما له صلة بحياة الفرد والجماعة، وعلاقتهما بالله.
غير أن هذه التحولات جعلت من دراسة تاريخ المسجد في أمريكا بمثابة حفريات للتحولات والانعطافات، من الانفتاح إلى الانغلاق، ومن محاولات الاندماج إلى إشاعة ثقافة التهميش الذاتي تحت ذرائع عدة، أهمها الحفاظ على الهوية، وتحديدا الهوية الدينية باعتبارها ضامن استمرار الوحدة بين فئات المهاجرين المسلمين، وضامن استمرار الهوية الثقافية.
من النادي إلى المسجد
وأنا أبحث في تاريخ الوجود الإسلامي في أمريكا، أثارتني مجموعة من الصور التي تعود إلى بدايات القرن العشرين؛ أي خلال الثلاثين سنة الأولى. إحداها لأسرة مكونة من والدين وثلاثة أطفال، الملاحظ أن الأم والبنتين لم يكنّ يرتدين الحجاب أثناء أدائهن الصلاة، علما أن هذه الأسرة واحدة من الأسر الثلاثين التي هاجرت من الشام عبر كندا واستقرت في ولاية داكوطا الشمالية.
ونظرا لبروز احتياجات ثقافية وروحية، وبعد أن نجح أفراد هذه الأسر اقتصاديا إلى حد أن الدولة مكنتم من أراض فلاحية شاسعة ذات جودة عالية مجانا، استطاعوا تشييد أول مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب مقبرة لدفن موتاهم المسلمين. وهو المسجد الذي سيتم هدمه أواخر السبعينات من القرن الماضي لاعتبارات عدة، أهمها انعدام الاحتياجات الثقافية والروحية نفسها لدى الأجيال التي خلفت المؤسسين.
التجربة ذاتها تكررت على امتداد التراب الأمريكي، خاصة حيث ما وجدت أعداد مهمة من التجمعات الإسلامية. لينتهي الأمر بالعديد من المساجد إلى الإغلاق، وبعضها تحول إلى كنائس ومطاعم أو محلات تجارية (انظر إيفون حداد The Muslims of America, p12))، بل حتى صلاة الجمعة كانت تقام يوم الأحد نظرا للسياق الزمني والعملي الذي يعيشون فيه.
واستنادا إلى دراسة إيفون، فبعض المساجد كانت تسمح بإقامة حفلات الرقص المختلطة (ذكورا وإناثا)، بل وكانت -بحسب إيفون-تقدم المشروبات الكحولية في الطوابق الأرضية/ ما يشبه المرآب في المساجد.
وإذا كانت تلك المساجد قد أغلقت أبوابها، فليس بسبب الاستغناء عن خدماتها بالانصهار في نسيج المجتمع الأمريكي من قبل الأجيال اللاحقة فقط، وإنما أيضا بسبب غياب الدعم، ومواجهة المشاكل المادية التي يتطلبها استمرار وتسيير مسجد من حيث هو بناية وطاقم يشرف عليه إمام يشغل الدور الذي يوكل إليه.
وبما أن الجيل الأول لم يكن يجعل من المسجد مكونا مركزيا في هويته، فإنه لم يكن لينشغل بالتفكير في الاقتصاد السياسي للهوية الدينية. والسبب عائد إلى اعتبارات عدة، لكن نرى أن أهمها الاستعداد المسبق للاندماج في السياق الأمريكي (بكل تجلياته)، وكذا الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي يمكن الحصول عليها، أضف إلى ذلك أن الشرق كان حديث العهد بظهور الأفكار النهضوية الكبرى التي ظهرت مع أواخر التاسع عشر، ثم إن العرب المهاجرين، على وجه الخصوص الذين قدموا من الشام، كانت بينهم أغلبية مسيحية، وبين المسلمين كان هنا شيعة وسنة.
وباستثناء المسيحيين، فإن العرب المسلمين لم يكونوا ليفرقوا بين الشيعي والسني. ولعل التجربة التي أسستها بعض الأسر العربية، وهي سبعة، (arab american banner society)، بعد أن استقرت في منطقة كوينسي بولاية ماستشيوسيت بداية القرن العشرين خير دليل عن عدم وجود أي تفرقة مذهبية، وقد أعيدت هيكلتها وغيرت مهامها ودورها لتصبح ذات ملامح دينية، وذات اسم جديد هو "الجمعية الإسلامية لكوينسي"؛ وذلك حوالي 1952، لتتحول الفكرة بدورها إلى بناء مسجد. وهو ما حصل بتشييد مسجدين، بل سوف يتعمق الشقاق ليتحول إلى تبادل للتهم بالتعصب والانتماء إلى خطاب عدائي بين الأفراد والمجموعات، ليمتد إلى وسائل الإعلام.
لقد تميزت هذه المرحلة، على العموم، التي تمتد بين بداية القرن العشرين وعقد الستينيات، بالانفتاح علي المجتمع الأمريكي ومحاولة إغنائه، إلى الحد الذي جعل من فئة كبيرة من أبناء هذا الجيل تنصهر داخل النسق الاجتماعي الأمريكي من خلال المصاهرة، والارتقاء في سلم الوظائف الحكومية أو الأكاديمية، حتى إن البعض منهم لم يعد يحمل من تراث أجداده سوى الاسم، في حين إن المرحلة التي تلت الفترة الأولى من الهجرة تميزت بانعطاف تمركزي أساسا حول "المسجد"، وزئبقي على مسافة بينه وبين السياق الأمريكي بوجه عام، بدء باللغة وانتهاء بالعادات والتقاليد، بل وحتى بالطبخ.
من المسجد إلى الجامع
مع ظهور مؤسسة المسجد، تراجع دور ووجود كل مؤسسة بديلة يمكنها أن تضطلع بدور ثقافي أو روحي/ديني. وهكذا صار المسجد ليس بناية تشيد لأداء طقوس الصلاة، وخاصة صلاة الجمعة، بل صار "مركزا إسلاميا" يقدم عددا كبيرا من الخدمات تبدأ بالروحي/الديني وتنتهي بالعمل الاجتماعي، من مساعدات وتوفير معلومات والتقاء الناس. وهو ما جعل هذه المؤسسة توسع من صلاحياتها وعملها ووظيفتها، في محاولة منها أن تشمل جل مناحي الحياة لدى المسلم المهاجر. وهذا ناتج عن عاملين؛ أحدهما اقتصادي والآخر إيديولوجي-ثقافي-هوياتي.
نظرا لتزايد الطلب على خدمات هذه المؤسسات، كان لا بد من التفكير في الجانب المادي، الأمر الذي استوجب البحث عن وسائل إنتاج تمكن من توفير منتوجات تهدف إلى إشباع الاحتياجات الروحية والثقافية للمهاجرين المسلمين الذين تتسع قاعدتهم سنة بعد أخرى. وكان من اللازم أن يسهر على ذلك أشخاص لهم "صفات" معينة لضمان تقديم هذه الخدمات، والتفكير في "اقتصاد سياسي" للمؤسسات.
من هنا كان المسجد لا يقتصر على توفير قاعة "لممارسة" طقس الصلاة وباقي أنواع العبادات، وإنما تجاوزها لكي يصبح "مركزا إسلاميا" لتدريس اللغة العربية، وإقامة الحفلات الدينية، والأنشطة الثقافية الإسلامية، من محاضرات ودورات تحسيسية وموائد الطعام، خاصة في رمضان، وكلها مؤدى عنها أو تكون وسيلة لجمع التبرعات والدعم المالي.
وهذه المؤسسات توظف أئمة مقابل أجر حتى يتمكنوا من تقديم خدماتهم للمستفيدين على أحسن وجه ويتفرغوا لخدمتهم، كما يتم توظيف مدرسين يلقنون اللغة ومبادئ الإسلام والتعاليم الإسلامية. والمسجد بهذا يشتغل وفق نسق يتسم بالانعزال وعدم الانفتاح على محيطه إلا بصورة فلكلورية وسلبية؛ لأن المستفيدين من خدماته لا يلجؤون إلى ذلك إلا كنوع من الهروب من واقع ثقافي وتاريخي.
فهم رافضون لزمن "راهن" بكل تجلياته بحثا عن تاريخ يعتبرونه تاريخهم، وفيه يجدون هويتهم؛ لأن الزمن الإسلامي هو زمن يوجد في الماضي وليس في الحاضر، وأن الحاضر كلما تقدم في المستقبل ابتعد عن "الزمن الذهبي" وحقيقته. ومن ثم، فإن الذهاب إلى "الجامع" هو عودة إلى "فضاء" بما يمثله من تداخل عناصر الزمن والمكان والناس. وهذا ما تجليه طبيعة المنتوج الثقافي الذي يتم تسويقه داخل هذه المؤسسات، سواء من خلال مضمون الكتب المدرسية المقررة أو من خلال المَسْكُوكات اللغوية والمفاهيم والتصورات التي يتم تداولها بين الناس، أفرادا وجماعات.
وإذ كان المسجد قد نجح في تطوير أدائه الاقتصادي واستطاع أن ينميه، وهو ما تكشفه الأعداد المتزايدة من المساجد التي تفوق الألفين، عوض أن يعرف العدد انحسارا وتراجعا، كما في السابق، بسبب إغلاق بضعها أو تحولها إلى أنشطة تجارية، فإن هذا النجاح لم يوازه تطور على مستوى الخطاب الفكري والفلسفي، وهو ما انعكس على واقع الإسلام في المهجر الأمريكي، وجعله يواجه تحديات حقيقية لم يع مسيرو هذه المؤسسات عمق الراهن وأسئلته المطروحة ولا سياق تواجده.
كما أنهم لم يختبروا جيدا مدى الأثر السلبي لتلك المحتويات التي يدرسونها للأطفال الذين يتلقون تعليما في المدارس الأمريكية العمومية وفق نظام ومضمون خاصين، خلال أيام الأسبوع، يتنافيان إلى حد التناقض مع ما يتم تلقينهم إياه أيام الآحاد في تلك المؤسسات، أو في بعض المناسبات (وهذا ما سنعود إليه لاحقا في مقال مستقل حول مضمون البرامج الإسلامية في تدريس التربية الإسلامية واللغة العربية.(
صار المسجد جامعا، والجامع فضاء يتنفس فيه المسلم الأمريكي، خاصة من المهاجرين، ويجد فيه جوابا على كل أسئلته التي حملها معه، بدء من تصوره للعالم وانتهاء بفهمه للتراث وموائد الطعام المنظمة في مناسبات الزواج أو العقيقة التي يختار بعض المسلمين إقامتها في المساجد؛ لأن الأكل هنا لا يعني الطعام فقط، وإنما هو حاجة ثقافية بالغة الأهمية، وهذا ما عبّر عنه سارتر بعمق حين قال: "الجوع أكبر بكثير من الجوع"؛ أي إنه جوع فقدان الهوية، والفضاء/المكان/الرحم، وجوع الضياع، وجوع المتاهات التي يضيع فيها الوعي بالأبعاد الزمنية؛ لأن الحاضر التاريخي الراهن كواقع هو غير الحاضر الذي ترسخ في وعي المسلم.
لكن الآباء نسوا أن الحاجيات الثقافية والروحية وطبيعة الأسئلة التي يواجهها أطفالهم مختلفة تماما، وأن كل محاولات "تفصيل" نظرتهم للعالم على مقاسهم تبوء بالفشل؛ لأن السياق العام يحرض على السؤال، وعلى حرية الفرد في ممارسة حقه في فهم العالم، كما أن الجواب الذي يقدمه الخطاب العلمي بمختلف فروعه يخلق جدلا عميقا لدى الطفل الذي ينمي علاقته بفهم العالم وفق المتغيرات الطارئة في الخطاب المعرفي ككل.
وقد أخطأوا (أي الآباء) حين تنازلوا عن دورهم التربوي، وتركوا "الجامع" ينوب عنهم في ذلك، معتقدين أن هذه المؤسسة يمكنها أن تصنع جيلا صالحا، مندمجا، محافظا على هويته الدينية واللغوية والحضارية.
ومن المفارقات التي يحيا عليها المسلم الأمريكي المهاجر كون بعض الآباء، ورغم إنجليزيتهم المكسرة، يتعمدون التحدث إلى أبنائهم بلغة غير العربية، علما أنها فرصتهم الوحيدة لاكتسابها وممارسة التحدث بها، مادام أنهم يتواصلون خارج البيت بالإنجليزية. وقد سمعت سيدة ذات يوم، في السوبر ماركت، تتحدث إلى ابنها بالإنجليزية قائلة: "هيا أسرع لتذهب إلى المركز لكي لا تضيع حصة العربية"!
تخريج عام
إن تحول الوعي لدى المسلمين الأمريكيين، خاصة المهاجرين، هو وليد اغتراب تاريخي وثقافي واجتماعي ومكاني أيضا. وقد كان من الوهم أن اعتقد هؤلاء أن التمييز بين الاقتصادي والثقافي/الفكري أمر ممكن وسهل التحقق؛ لأن النجاح الاقتصادي لدى الفرد المسلم لم ينعكس بصورة إيجابية، على العموم، بل ازداد انغلاقا واختلالا.
وهذا الانغلاق زاد من إحساس الفرد بالاغتراب والعزلة، وانعكس على سيكولوجية الجماعة التي ترى نفسها أقليات داخل أقلية، وترى نفسها مستهدفة ومضطهدة، ما أدى إلى إنتاج ردود فعل، لا واعية، اتسمت بالتهميش الذاتي. وصار أقصى ما يطمح إليه المسلم المهاجر هو حصول أبنائه على شهادات عليا للحصول على عمل. لكن هذا سيخلق لنا جيلا من الأطر التقنية (أطباء أو مهندسين أو مدرسين) ذوي كفاءة مهنية عالية، لكنها ناقصة فكريا؛ أي غير قادرين على تمثل الأسئلة الحضارية.
إن أزمة المسلمين الأمريكيين ليست أزمة مادية، ولا أزمة حقوق وعلاقة بدولة ومؤسساتها، ولا علاقة لها بالارتقاء المادي، وإنما ترتبط بتمثل قيم الحداثة ومكتسابتها، وكذا بعدم وعيهم بحدود "الجامع" الذي لا يمكنه أن يجيب على كل الأسئلة، وإنما هو جواب "إلى حد ما" على بعض الأسئلة الميتافيزيقية التي يمكن للبعض أن يحقق إشباعا روحيا فيها.
إن الجامع بهيمنته على كل مجالات الحياة، من الجسد وتمظهراته إلى غسله وتكفينه، فإنه لن يزيد إلا من تأزيم واقع الإسلام في المهجر، وسيجعل من المسلمين مجرد أقلية تطالب بحقها في التعدد والاختلاف وحرية العقيدة وتبرير سلوكها، ومحاولات إقناع الآخر بأن العنف ليس من الدين، والتبرؤ من فئة تدعو إلى التشدد، وهو بذلك لا يعمل إلا على ترسيخ الشعور بالإقصاء والرفض عوض الانتماء وترسيخ الحضور.
إن الواقع الأمريكي مختلف عن نظيره الأوروبي، على الأقل من حيث نسيجه المجتمعي وتاريخ البنى الاجتماعية المؤسسة له. ومن ثم، فإن المسلمين لم ينجحوا في بلورة قضيتهم باعتبارهم أمريكيين، ومواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، عوض أن يظلوا رهينة "الأقلية" والإحساس بالاضطهاد والتنكر لهم.
إن هذه الفئة مدعوة اليوم إلى التخلص من المفهوم الإيديولوجي "للجامع" وإعادة رسم الحدود الجغرافية والفكرية في "المسجد"، والانخراط في الهوية الأمريكية، واعتبار حرية المعتقد ليست حقا "إسلاميا"، وإنما حق من حقوق الإنسان والمواطن بقوة النص الدستوري.
وهذا لن يتأتى إلا بالتخلص من القراءات اللاتاريخية والميثولوجية للتاريخ والخطاب الديني؛ أي الارتقاء من مجال الإسلام الديني إلى مستوى الإسلام الحضاري؛ لأن الإسلام الحضاري سيغذي المشهد الثقافي والفكري والفلسفي، أما الإسلام الديني فسيفوت على هذه الفئة ما تبقى من الفرص التاريخية التي أُهدر منها الكثير الكثير!
نقلا عن هيسبرس المغربية