تجري في هذه الأيام ظاهرة نادرة في الإعلام الأمريكي؛ يجمع اليسار واليمين على أن بايدن أوقع مصيبة استراتيجية على الولايات المتحدة وحلفائها، وأن استسلامه لطالبان دخل إلى قاموس الأساطير السلبية في التاريخ الأمريكي.
لدى بايدن استعداد لترك مواطنين أمريكيين عالقين خلف خطوط طالبان إلى جانب أفغان ساعدوهم. ولكن الواقع الذي لا تزال فيه طالبان موجودة بعد 20 سنة، وتنجح في إعادة السيطرة على أفغانستان، هو نتائج أخطاء استراتيجية عقب 11 أيلول 2001.
في حينه، بلور الرئيس جورج دبليو بوش، مع فريقه، فرضيات الحرب ضد الإرهاب، وتحدثت بعض من هذه الفرضيات وفقاً للتحولات الدولية. ولكن ثلاثاً منها تثبتت، وباستثناء السنتين الأخيرتين لإدارة ترامب لم تحدّث أيضاً. هذه الفرضيات الثلاث تقبل أيضاً في أساس فشل الصراع الأمريكي ضد الإرهاب العالمي: الفرضية الأولى تتعلق بباكستان، والثانية بإيران، والثالثة بإسرائيل.
باكستان أثبتت من القوي
منذ 11 أيلول كان واضحاً بأن أجهزة الاستخبارات الباكستانية الـ ISI، تقف خلف طالبان مثلما تقف خلف القاعدة أيضاً. كان ممكناً التوقع أن يعمل الأمريكيون أولاً وقبل كل شيء ضد إسلام أباد. ولكن باستثناء بضعة تهديدات في موعد قريب من الاجتياح الأمريكي لأفغانستان في تشرين الأول 2001، لم يعمل الأمريكيون ضد باكستان، وذلك لسبب بسيط: أجرت باكستان عدة تجارب نووية في العام 1998، وفي 2001 كانت تملك ترسانة نووية كبيرة. إذا كان أحد ما شك في أن الباكستانيين، مؤيدي الإرهاب، مستعدون لاستخدام السلاح النووي – فإن شبه الحرب بينهم وبين الهند في 2001 – 2002 هي الدليل.
في كانون الأول 2001 نفذ مخربون كشميريون مدعومون من باكستان عملية إجرامية في البرلمان الهندي. رد الهنود بنشر القوات على حدود باكستان. ورداً على ذلك، نقل الباكستانيون جيوشهم إلى الحدود. في أيار 2002 كان احتمال الحرب بين الجبارين الآسيويين عالياً للغاية. بضغط أمريكي، قال الهنود إنهم لن يكونوا أول من يستخدم السلاح النووي. أما رئيس باكستان في حينه، برويز مشرف، فقد رفض عمل ذلك. وبدلاً من إعطاء إسناد مطلق للهند، ضغطت الولايات المتحدة عليها بالنزول عن الشجرة أولاً.
كشف السلوك الأمريكي للعالم بأن ترسانة باكستان النووية نجحت في ردع وثني قوة عظمى. في غضون نصف سنة، طردت كوريا الشمالية مراقبي الأمم المتحدة من منشأتها وخرجت من الميثاق الدولي لعدم نشر السلاح النووي. إيران في تلك الأيام شددت نشاطها النووي السري في أصفهان ونطنز. الامتناع الأمريكي عن الصدام مع باكستان سمح لـ ISI أن يواصل دعم وحفظ طالبان حتى بعد أن أسقطه الأمريكيون في نهاية 2001.
وبالنسبة لإيران، اتخذ بوش ورجاله قراراً بعدم التصدي لها. ليس هذا قراراً جديداً. فمنذ إدارة ريغان يسود اعتقاد في واشنطن بأنه يمكن التوصل إلى اتفاقات مع النظام تعيد الحلف الاستراتيجي الذي كان في عهد الشاه. لم تتأثر إدارة بوش من الدعم الذي قدمته إيران لخاطفي الطائرات في الأشهر التي سبقت 11 أيلول. كما لم تتأثر من أن مجلس شورى القاعدة انتقل من أفغانستان إلى إيران بعد سقوط طالبان، ولا أيضاً من أن القاعدة في العراق، وكذا الميليشيات الشيعية الذين تلقوا تعليماتهم من قيادات كانت تتموضع في إيران.
إن الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى توافقات وبالتالي لا ينبغي العمل ضد إيران، ساد وتعزز في إدارة أوباما. ترامب هجره جزئياً في السنتين الأخيرتين له في البيت الأبيض. أما بايدن، فقد عاد إليه بكل القوة مع بداية ولايته في كانون الثاني.
الفرضية الثالثة تتعلق بإسرائيل. منذ الأيام الأولى بعد العمليات، بقيادة وزير الخارجية في حينه كولين باول، قضت إدارة بوش بمقاتلة منظمات الإرهاب، ولكن دون الدول الداعمة للإرهاب (باستثناء العراق). وذلك لأن الإرهاب -بزعم باول- يهدد الجميع، ولهذا فإن كل الدول حليفة محتملة. وكما شرح لي د. ديفيد فرسنيسر، الذي كان آنذاك مستشاراً لنائب الرئيس ديك تشيني لشؤون الشرق الأوسط، أقنع باول بوش بأن طريق تجنيد الحلفاء في العالم العربي هو الضغط على إسرائيل للعودة إلى خطوط وقف النار في 1949. أرادت الولايات المتحدة تجنيد نظام الأسد من خلال بيع هضبة الجولان، والسعوديين وباقي السُنة بمن فيهم الفلسطينيون، من خلال إقامة دولة فلسطينية.
“خطاب تشيكوسلوفاكيا” تبدد
قبيل الاجتياح الأمريكي للعراق في 2003، حاول رئيس الوزراء في حينه ارئيل شارون، التصدي للفرضية الأساس بالنسبة لإيران؛ فقد شرح للأمريكيين بأن العراق لم يشكل تهديداً استراتيجياً منذ حرب الخليج في 1991. هذه المحاولة فشلت على أي حال.
بالنسبة للفلسطينيين، عندما رأى شارون جمود الفكر في إقامة دولة فلسطينية، جرد الشروع في صراع. في تشرين الأول 2001 ألقى “خطاب تشيكوسلوفاكيا” الذي هز الأركان على مدى نحو خمس دقائق. “أتوجه للديمقراطيات الغربية، وأولاً وقبل كل شيء لزعيمة العالم الحر الولايات المتحدة – لا تكرروا الخطأ الرهيب في 1938. في حينه قررت الديمقراطيات المتنورة في أوروبا التضحية بتشيكوسلوفاكيا لحل مؤقت مريح. لا تحاولوا مصالحة العرب على حسابنا. لن نقبل هذا. ولن تكون إسرائيل تشيكوسلوفاكيا. إسرائيل ستقاتل الإرهاب”، أعلن شارون.
ردت الإدارة بغضب على هذه الأقوال، وتراجع شارون. بعد شهر من ذلك، كان باول المسؤول الأمريكي الأول الذي يعلن عن تأييد الولايات المتحدة لإقامة دولة فلسطينية. كان فشل شارون يكمن في ضعفه أمام الأمريكيين. لم تكن لديه أدوات للكفاح، ولم يكن يعرف المنظومة. أما نتنياهو بالمقارنة معه، فقد حقق نجاحات مهمة في محاولاته لقضم الفرضيات الأمريكية الأساس.
صراع نتنياهو ضد التقرب الأمريكي من إيران أدى إلى تفكك الجبهة العربية ضد إسرائيل. والمحور الإسرائيلي – العربي أمام إيران وفروعها أدى إلى قرار إدارة ترامب هجر الاتفاق النووي. وحسب مصادر رفيعة المستوى في إدارة ترامب، كانت نيته قيادة معركة إسرائيلية عربية في ولايته الثانية غايتها تفكيك البرنامج النووي لإيران. وبالنسبة للفلسطينيين، عمل نتنياهو على قضم الفرضية الأمريكية الأساس، من خلال الحلف الذي عقده مع دول عربية ومن خلال الأعمال تجاه الرأي العام الأمريكي وتجاه مؤيدي إسرائيل في الكونغرس أيضاً. منعت جهوده مسعى أوباما لحمل إسرائيل على تنازلات بعيدة المدى. هذه الإنجازات تتدحرج الآن كالبساط الفارسي في أعقاب خطوة التنحية المزدوجة ضد ترامب ونتنياهو.
وثمة إحساس قاس اليوم بأن الحفرة التي فتحت في أفغانستان تجتذبنا عشرين سنة إلى الوراء. ولكن الحقيقة أخطر بكثير. في 2001 كانت الولايات المتحدة أقوى بكثير بالنسبة لأعدائها. هذا الوضع لن يتحسن. مسيرة الضعف ستتسارع طالما لم تهجر الولايات المتحدة الفرضيات المغلوطة التي تبنتها قبل عشرين سنة.
بقلم: كارولين غليك
إسرائيل اليوم 27/8/2021