لأعوام نشر الكاتب الإيراني أمير حسن چهلتن تقاريرَ وروايات باللغة الألمانية. كذلك نُشِرَ كتابه "الببغاء الصامد" أولًا بالألمانية. ورغم عيش هذا المؤلف في طهران لكن يبقى تساؤل حول إمكانية نشر هذا الكتاب -المتمحور حول أحداث عام 1979- في إيران. فولكر كامينسكي يستعرض الكتاب لموقع قنطرة.
- في كتاب أمير حسن چهلتن، الذي يحمل العنوان الفرعي "ذكريات من طهران 1979"، يتراجع الراوي إلى الخلفية. وعلى العكس مما كانت عليه الحال مثلًا في روايته "خطاط أصفهان" (صدرت عام 2015)، فإنَّ الراوي لا يأخذنا عبر الطرقات المتعرِّجة لحياة أبطاله. وعلى الرغم من أنَّ هذا الكتاب فيه عنصر خيالي، إلَّا أنَّ قصَّتة الفعلية تعكس بأسلوب التقارير الصحفية الميدانية مجرى الأحداث التي دخلت التاريخ باسم الثورة الإسلامية.
يقتبس أمير حسن چهلتن من الصحف والبرامج الإذاعية والتليفزيونية ويعتمد على أرشيف مجهَّز تجهيزًا جيِّدًا (خاص به؟)، ويذكر بالتفصيل تلك الأشهر المضطربة بين تنحي الشاه وبين صعود آية الله الخميني الذي لا يمكن إيقافه ليصبح المرشد العام للثورة الإسلامية. لا يمضي يوم من دون أن يموت أشخاص في عمليات تقوم بها الشرطة، ومن دون وقوع أعمال تخريب واعتقالات جماعية، وبسرعة يصل عدد عمليات الإعدام اليومية إلى المئات.
حيٌّ خالٍ من حواجز اجتماعية
الجانب المظلم من الثورة الإسلامية: تكشف كلّ صفحة من صفحات كتاب أمير حسن چهلتن "الببغاء الصامد - ذكريات من طهران 1979" عن ظروف تعنيف المثقَّفين والمعارضين وإرهابهم، التي يمكن أن ينتقل إليها بلدٌ ما يعيش مرحلة انتقالية الوشاية والمخبرين والاضطهاد المنهجي جزءًا من الحياة اليومية.
وبالإضافة إلى وجود هذه الرواية السياسية، يتحدَّث الكتاب أيضًا بصيغةِ "أنا" المؤلفِ في فترة شبابه. فقد كان يدرس في سنّ الثانية والعشرين الأدب ويعيش في حيّ سكني يقع في منطقة مركزية في طهران، لا توجد فيه أية حواجز اجتماعية وتعتبر فيه جميع الطبقات الاجتماعية ممثَّلة في مزيج جيّد. يعيش في هذا الحيّ "مُعلِّمون وعمَّال مصانع وتجَّار بقالات جنبًا إلى جنب مع طبيب ورأسمالي وحتى مع رجل دين".
في محل السيِّد فيروز للمشروبات الروحية، يقف السكَّان بمن فيهم الراوي الشاب ليتبادلوا آخر الأخبار بشغف وحماس ويشربوا البيرة الباردة وهم واقفين. يوجود كذلك سكَّان لا يشربون الخمر كونهم مسلمين ملتزمين يذهبون عدة مرات في اليوم إلى المسجد. ولكن بالإضافة إلى زبائن فيروز الدائمين والأشخاص المواظبين على الذهاب إلى المسجد، توجد أيضًا مجموعة ثالثة تجمع بين الأمرين، مجموعة "بناة الجسور"، الذين لا مانع لديهم من الاستمتاع بالخمر بكميَّات معتدلة على الرغم من أنَّهم يصلون.
هذه البيئة التي تطوَّرت على مدى قرون من الزمن والتي يسودها التسامح والتضامن بين الجيران، واجهت في عام 1979 تحدِّيات كبيرة وقد تضرَّرت بشدة من آثار الثورة الإسلامية.
"والد الشهيد"
يتكهن الراوي بالحدث الذي يمكن أن يتم من خلاله تحديد بداية الثورة. ويطرح الأحداث في حيّه السكني للنقاش، بالإضافة إلى الأحداث السياسة الكبيرة، مثل تلك الحجارة التي ألقاها أحد أتباع آية الله الغاضبين وحطَّم بها زجاج محل فيروز للمشروبات الروحية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 1978 - وهو حدث في حدِّ ذاته لا أهمية له لو لم يكن الناشط الشاب هُمايون، الذي خرج من مجموعة متظاهرين غاضبين ورمي الحجر الأوَّل على محل فيروز، هو ابن مالك هذا المحل، الذي بات يواجهه وجهًا لوجه.
بعد ذلك بفترة قصيرة، يشارك همايون في مظاهرة مناهضة للشاه ويموت نتيجة إطلاق النار. ومنذ ذلك اليوم - الأوَّل من كانون الثاني/يناير 1979 - يُطلق السيِّد فيروز على نفسه اسم "والد الشهيد". بالنسبة للراوي فإنَّ هذا الحدث يمثِّل البداية الحقيقية للثورة، التي تغرق البلاد برمَّتها في فوضى ويعيش في ظلها الأهالي طيلة أشهر في رعب وخوف.
ولسوء الحظ فإنَّ الراوي يُهمل في مجرى الأحداث ذلك الحيّ السكني ولا يعود إلى هناك إلَّا بشكل متقطِّع فقط. وأحيانًا تشوب لهجته سخرية لطيفة عندما يتحدَّث عن "قضاء الوقت في زمن الثورة"، ويقصد بذلك معارك شوارع يخوضها شباب يضرمومن النيران في الإطارات ويردِّدون الهتافات ويوزِّعون المنشورات ويلعبون "مع جنود الشاه لعبة القطة والفأر".
تلاشي التفاؤل
تكشف كلّ صفحة من صفحات هذا الكتاب عن ظروف تعنيف المثقَّفين والمعارضين وإرهابهم، التي يمكن أن ينتقل إليها بلدٌ ما يعيش مرحلة انتقالية بعد انقلاب. حيث يصبح الحكم الاستبدادي وثقافة الوشاية والمخبرين والاضطهاد المنهجي جزءًا من الحياة اليومية.
صحيح أنَّ الأمل ينمو باستمرار، و"ربيع الحرِّية" يبدو قريبًا والأعمال المسرحية بات يتم عرضها في الشوارع، لأنَّ المسارح قد تم تدميرها، غير أنَّ هذا التفاؤل يتلاشى بسرعة: "في السنوات القادمة يتعيَّن على جميع الشباب الاستسلام لحياة الزهد والتقشُّف. فقد تم تعليمهم ذلك بالضرب". وتم التراجع عن المساواة وحقوق المرأة المكتسبة في السابق وسرعان ما بات من غير المعقول مشاهدة مذيعة من دون حجاب على على شاشة التلفزيون.
أمَّا الببغاء الذي يجلس في داخل قفص في محل السيِّد فيروز للمشروبات الروحية ويردِّد بعناد "يعيش الشاه"، فهو مجرَّد أمر تافه لا معنى له بالنظر إلى الحقائق القاسية: من صراعات دموية من أجل السلطة وحتى اقتحام السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز رهائن فيما بعد. هذا الكتاب يقف فيه التاريخ حرفيًا ضدَّ الفرد، الذي يتم سحقه من خلال الأحداث.
فولكر كامينسكي
ترجمة: رائد الباش
موقع قنطرة 2019
ar.Qantara.de
كتاب أمير حسن چهلتن، "الببغاء الصامد - ذكريات من طهران 1979"، ترجمته عن الفارسية إلى الألمانية يوتا هيملرايش، صدر عن دار نشر ماتيس وَ زاتس، برلين 2019.