محمد يسري
الفرس هم أحد الشعوب الهندوأوربية التي سكنت في منطقة الهضبة الفارسية، وهي منطقة تمتد حالياً في دولة إيران، وفي أجزاء متفرقة من دول أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى.
ورغم أن اسم فارس لم يُقصد به دولة إيران فقط، إلا أن الاسمين تلازما على امتداد القرون، حيث كان اسم فارس يُطلق على دولة إيران الحالية، حتى قام الشاه رضا بهلوي في عام 1935 بتغيير اسمها إلى إيران.
استطاع العنصر الفارسي، منذ دخوله للإسلام في فترة الفتوحات الإسلامية المبكرة في النصف الأول من القرن الأول الهجري، أن يشارك بقوة في تشييد الحضارة الإسلامية.
ورغم أنه من المعتاد أن يتم الربط بين الفرس والتشيع، فلعل كثيرون قد يتفاجأون إذا ما عرفوا أن بعض أهم علماء وفقهاء المذهب السني كانوا من الفرس، وهو الأمر الذي التفت إليه عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته، فقال: "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم".
في الحديث النبوي... مسلم وابن ماجة
ارتبطت أشهر مصنفات علم الحديث النبوي عند السنة بعلماء وحفاظ من أقاليم غير عربية. وكان العلماء الفرس تحديداً أصحاب اليد الطولى في تدوين الحديث النبوي، بحيث صارت مصنفاتهم في هذا العلم هي المصنفات والمدونات المعتمدة التي يرجع إليها المسلم السني للتعرف على أصول الدين وأحكامه.
في مدينة نيسابور الواقعة شمال شرق إيران، وُلد مسلم بن الحجاج في بداية القرن الثالث من الهجرة، واشتغل بصناعة الحديث، فألف كتاب "المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله"، والذي عُرف باسم صحيح "مسلم".
بالغ علماء السنة في تعظيم مكانة هذا الكتاب على مرّ العصور، حتى نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق، قول بعض العلماء: "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث".
وكان السبب الرئيسي في أهمية صحيح مسلم عند أهل السنة، أن صاحبه وضع شرطاً صعباً لقبول إيراد حديث ما في كتابه، تمثل في "أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالماً من الشذوذ ومن العلة"، حسبما يذكر ابن الصلاح في مقدمته. وبهذا صار كل حديث وارد في صحيح مسلم حديثاً صحيحاً، بحسب القواعد المعمول بها في علم الرواية عند أهل السنة والجماعة.
أما في منطقة قزوين الواقعة في شمال إيران، فظهر أبو عبد الله محمد بن يزيد، المعروف باسم ابن ماجة القزويني، وهو أحد كبار العلماء السنة الذين تنوّعت جهودهم العلمية في مجالات الحديث والتاريخ والتفسير، وإنْ لم يصلنا من بين جميع مصنفاته سوى كتاب السنن، الذي يعتبره أهل السنة واحداً من بين أهم ستة كتب جمعت الأحاديث النبوية.
ويمتاز كتاب ابن ماجة بعدد من المميزات التي أهلته ليتبوأ تلك المكانة السامية وسط كتب الحديث عند أهل السنة، ومنها دقة الترتيب وكثرة أبوابه وموضوعاته، كما أنه، وبعكس أغلبية كتب الحديث السنية، مخصص للأحاديث المرفوعة للرسول، ونادراً ما أورد روايات للصحابة أو التابعين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن ماجة رتّب كتابه وفقاً للمسائل الفقهية والتشريعية، ما جعل منه مرجعاً مهماً عند أهل الفقه السني.
في الفقه... ابن سعد وابن حزم والأصبهاني
في ما يخص الفقه، فإن العديد من الآراء تنسب أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي إلى أصول فارسية، وإن كانت هناك آراء أخرى تحاول أن تصحح نسبهم العربي.
ومن بين فقهاء السنة المقطوع بصحة نسبتهم إلى الأصل الفارسي، نجد الفقيه الليث بن سعد المتوفي عام 175هـ، والذي وإنْ كان قد ولد في مصر، إلا أن أصوله تعود إلى مدينة أصبهان الواقعة في جنوب العاصمة الإيرانية طهران، حسبما يذكر السيد أحمد خليل في كتابه "الليث بن سعد: فقيه مصر".
في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، استطاع ابن سعد أن يؤسس لمذهب فقهي مهم يُنسب إليه في مصر، واستطاع هذا المذهب أن ينتشر لبعض الوقت عقب وفاة مؤسسه، ولكنه سرعان ما اندثر لعدم توافر تلاميذ قادرين على تحمل تبعات نشر المذهب على الوجه الأمثل، وهو ما عبّر عنه الشافعي في قوله الشهير: "اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ".
ومن الفقهاء الفرس الذين أثّروا كثيراً في المذهب السني، الفقيه داود بن علي بن خلف المتوفي عام 270هـ، والمعروف باسم داود الأصبهاني.
تمثل إسهام الأصبهاني في كونه قد أسس لمذهب فقهي جديد، هو المذهب الذي عُرف باسم المذهب الظاهري، وكانت أسسه تتركز في رفض مبادئ التأويل والرأي والقياس، والأخذ بظاهر النصوص، سواء تلك التي وردت في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الصحيحة.
ورغم أن المذهب الظاهري لم ينتشر بشكل كبير في بلاد المشرق الإسلامي، إلا أنه قد قُدّر له أن يحقق قدراً من الذيوع في بلاد الأندلس، عقب وفاة مؤسسه بنحو قرنين من الزمان، حتى أضحى المذهب الفقهي الخامس عند أهل السنة والجماعة.
ومن الغريب أن إعادة بعث المذهب الظاهري في الأندلس تمت على يد فقيه فارسي الأصل هو الآخر، وهو الفقيه الأندلسي الأشهر أبو محمد علي بن حزم المتوفي عم 456هـ، والذي يؤكد الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء على أصوله الفارسية.
ابن حزم
في العقيدة وعلم الكلام... إمام الحرمين الجويني
في ما يخص العقائد وعلم الكلام، يمكننا أن نميّز العديد من الأسماء الفارسية الأصل التي ساهمت في تشييد البناء العقائدي والأصولي عند أهل السنة والجماعة.
في الطليعة من تلك الأسماء، يأتي اسم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني المتوفي عام 478هـ، والذي يؤكد تاج الدين السبكي في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" على أصوله الفارسية من خلال انتسابه إلى مدينة نيسابور.
في كتابه "إمام الحرمين وأثره في بناء المدرسة الأشعرية"، يذكر الدكتور علي محمد جبر، أن الجويني يُعتبر المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري، وهو المذهب العقائدي الأكثر انتشاراً وذيوعاً بين أهل السنة والجماعة.
لعب الجويني دوراً في غاية الأهمية في علم الاعتقاد السياسي على وجه الخصوص، واستطاع في كتابيه "غياث الأمم في التياث الُظلم" و"الإرشاد إلى قواعد الأدلة في أصول الاعتقاد"، أن ينظر بشكل محكم لنظرية الإمامة، فقد عمل في كتابيه على استخدام المنهج العقلي في "تصحيح" خلافة الخلفاء الأربعة الأوائل، من خلال شرعنة الطرق التي وصلوا من خلالها إلى الحكم، وكذلك "صحح" خلافة الخلفاء الأمويين والعباسيين، عندما شرعن لخلافة الحاكم المتغلب، وتمكن بذلك من تأسيس قاعدة عقلية أصولية سنية تستطيع أن تنهض وتواجه النظريات السياسية المُحكمة التي قالت بها الفرق المختلفة المتفرعة عن مذاهب الشيعة الإمامية والخوارج.
وتمكّن الجويني بذلك من تأسيس قاعدة عقلية أصولية سنية تستطيع أن تنهض وتواجه النظريات السياسية المُحكمة التي قالت بها الفرق المختلفة المتفرّعة عن مذاهب الشيعة الإمامية والخوارج.
بالإضافة إلى ذلك، أعلى الجويني من شأن "الإجماع"، بحيث صار أحد أهم الأصول التي تُستخدم في الفقه السني. ويذكر الدكتور خالد رمزي البزايعة في كتابه "إمام الحرمين الجويني ودوره السبق في تأصيل وتقعيد علم المقاصد الشرعية"، أن الجويني كان من بين العلماء الذين لهم فضل السبق في تأسيس علم مقاصد الشريعة، وهو العلم الذي حرّر الفقه الإسلامي السني من الدائرة الضيقة التي انحصر فيها، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام علماء الإسلام.
في التفسير... البغوي
في ما يخص علم تفسير القرآن، اشتهر الكثير من العلماء السنة الفرس، ومنهم أبو محمد البغوي المتوفي عام 516هـ.
تعود أصول البغوي إلى إقليم خراسان، في شمال غرب أفغانستان، بالقرب من مدينة هراة، ويُعتبر كتابه "معالم التنزيل" من أهم التفاسير المعتمدة عند أهل السنة.
في كتابه "مقدمة في أصول التفسير"، يشرح شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الجوانب الإيجابية التي تفوّق فيها البغوي في تفسيره، فيحصرها في أنه ابتعد عن الأحاديث الموضوعة، أو الأحاديث المنتشرة عند الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة. وبالإضافة إلى ذلك فقد أورد في بداية كتابه الأسانيد التي رجع إليها، فبيّن طرقها ورجالها، وهو أمر غاية في الأهمية، عند أهل السنة الذين أولوا اهتماماً خاصاً بعلوم الرواية والجرح والتعديل.
أما الدكتور محمد حسين الذهبي، فقد ذكر في كتابه التفسير والمفسرون، الأسباب التي تسببت في إعطاء تلك الأهمية والمكانة لتفسير البغوي عند أهل السنة خصوصاً، فحصرها في كون صاحبه قد ابتعد بالكلية عن الروايات الكتابية المعروفة بالإسرائيليات، والتي كانت منتشرة كثيراً في كتب التفسير في القرون الأولى، كما أن البغوي عمد إلى الاكثار من الاستشهاد بالأحاديث النبوية التي يعتقد أهل السنة بصحتها، وأكثر من المنقولات عن أعلام الصحابة والتابعين الذين يحترمهم ويبجلهم أهل السنة، من أمثال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن البصري وعطاء بن رباح، وغيرهم، أما السبب الثالث فيتمثل في كون العالم الفارسي قد حشد في كتابه العديد من الأحكام الشرعية والفقهية، ما جعل من تفسيره كتاباً معتبراً عند أهل السنة، وحدا بالكثير من علمائهم، قديماً وحديثاً، إلى أن يضعوه في طليعة تفاسير القرآن الكريم.
وبحسب ما ترى الدكتورة عفاف عبد الغفور في كتابها "البغوي ومنهجه في التفسير"، فإن مميزات معالم التنزيل تتمثل في أسلوب صاحبه السهل السلس الذي ينتقل فيه من مسألة إلى مسألة دون غموض أو لبس أو تطويل، وهو ما أتاح للكتاب فرصة الانتشار وسط قطاعات واسعة من المسلمين.
في اللغة والنحو... سيبويه
عمرو بن عثمان بن قنبر، المشهور بسيبويه، كان أحد علماء الفرس الذين استطاعوا أن يفرضوا حضورهم الطاغي في ميدان علوم اللغة العربية والنحو، وما ارتبط بها من مسائل أصولية وفقهية استفاد منها المذهب السني كثيراً بعد ذلك.
فالكثير من علماء الأصول السنة، احتجوا بكتابات سيبويه، فبنوا بعض أرائهم الفقهية على اختياراته اللغوية.
استعرض الدكتور عادل فتحي في بحثه "أثر سيبويه في الدرس الأصولي" العديد من أقوال سيبويه التي رجع إليها الفقهاء الشافعيون على وجه الخصوص، ومن ذلك رأي سيبويه في الدلالات والتخصيصات المتنوعة في حروف الجر، ومنها أن "وجود (من) مع (إلى) قرينة، فإذا وجدت لم يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها؛ لأنها حينئذ تقتضي تحديداً، وإذا فُقدت (من) جاز ذلك وبقي الاحتمال"، ومثال على ذلك قول فلان بعتك من هذه الشجرة إلى تلك الشجرة، فلا يدخلان في البيع عندئذ، ولكن إذا لم تقترن بمن، دخلت في البيع.
أما الدكتور عبد الله أحمد جاد الكريم حسن، فقد جمع في كتابه "أثر سيبويه في المسائل العقدية والفقهية"، مجموعة كبيرة جداً من المسائل الفقهية التي رجع فيها فقهاء السنة لرأي سيبويه، ومنها الاختلاف في حكم بعض صيغ اليمين، وفي حكم غسل الكعبين في الوضوء، وفي بعض أحكام الميراث، وأيضاً في تفسيره قول الله تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}، والتي تابع فيها أكثرية العلماء قول سيبويه الذي ذهب إلى أن المقصود بكلمة "سلاماً" هنا المتاركة والابتعاد، وليس تسليم التحية كما ذهب بعض اللغويين.
في السياسة... نظام الملك الطوسي
استطاع بعض الساسة الفرس أن يوطدوا لمذهب أهل السنة والجماعة من خلال عملهم كوزراء في عصور بعض الخلفاء العباسيين، أو السلاطين السلاجقة.
من أهم هؤلاء، الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي المتوفي عام 485هـ، والذي تولى الوزارة في عهد كل من السلطانين ألب أرسلان وملكشاه.
بحسب ما يذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، فإن نظام الملك قام بإنشاء عدد كبير من المدارس العلمية السنية في شتى انحاء إيران والعراق، ومن أشهر تلك المدارس مدارس نيسابور وطوس وأصبهان وبغداد، واستغل الوزير تسلطه على الموارد المالية، في تعيين مجموعة كبيرة من الأوقاف المخصصة للإنفاق على علماء أهل السنة دون غيرهم.
قام نظام الملك بخطوة مهمة، عندما نجح في تقريب وجهات النظر ما بين السلطان السلجوقي من جهة والخليفة العباسي من جهة أخرى، كما أنه أعلن الحرب الضروس ضد الشيعة الإسماعيليين في إيران، وعمل بمنتهى قوته على استئصال شأفتهم والقضاء عليهم.
وبحسب ما يذكره عطا ملك الجويني في كتابه تاريخ جهانكشاي، فإن تحريضات نظام الملك المستمرة نجحت في إقناع ملكشاه بإرسال الحملات العسكرية المتوالية لضرب الإسماعيليين والاستيلاء على قلاعهم الحصينة، وخصوصاً قلعة ألموت التي اتخذتها طائفة الحشاشين حصناً لها، وهو الأمر الذي تسبب في النهاية في اغتيال الوزير الفارسي على يد أحد الحشاشين.
وتجدر الإشارة إلى أن أبناء القوميات التي شملها العالم الإسلامي تمازجوا وتفاعلوا في الحواضر الإسلامية الكبرى، كما أن معظم أبناء بلاد فارس كانوا تاريخياً على المذهب السنّي إلى حين تغيّر الواقع منذ بدايات القرن السادس عشر، مع تولي الصفويين حكم إيران.
رصيف 22