يوسف تيلجي
ما زال، الإسلام ورجاله، من علماء وشيوخ وأئمة ومفكّرين ودعاة يرتكزون ويعتمدون في نهجهم على فقه الأولين، كالأئمة الأربعة أبي حنيفة، مالك، الشافعي، وابن حنبل، إضافة الى أئمة الشيعة/الاثني عشرية بكل انقساماتهم، ويُسمّون كذلك ”بالجعفرية” نسبة إلى أبرز أئمتهم؛ الإمام السادس جعفر بن محمد (هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق 702م – 765 م) وغيرهم. ويبرز أيضًا من فقهاء أهل السنة والجماعة، المثير للجدل، شيخ الإسلام ابن تيمية 661 - 728هـ الذي عاش في دمشق فقيهًا وعالمًا مجتهدًا شديد التأثر بأصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وخلال الثلاثمائة سنة الأخيرة، برز الإمام محمد بن عبد الوهّاب ( 1703- 1791م) وهو عالم دين سني على المذهب الحنبلي يعتبره أتباع دعوته من مجدّدي الدين الإسلامي في شبه الجزيرة العربية حيث شرع في دعوة المسلمين للتخلص من البدع والخرافات وتوحيد الله ونبذ الشرك، وغيرهم الكثير من الجماعات والفرق والفقهاء والمفسّرين والأئمة. ويقف في مقدّمة هؤلاء وأولئك من الأقدمين، ويعتبر الأشهر بينهم - الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (20)يوليو 810 م- 1 سبتمبر870 م أحد كبار الحفّاظ والفقهاء، ومن أهم علماء الحديث والجرح والتعديل والعلل عند أهل السنة والجماعة (نقلًا من الموسوعة الحرة)، ويعتبر البعض كتابه ”صحيح البخاري” أصدق كتاب بعد القرآن، فقد جاء في موقع ملتقى أهل الحديث ما يلي "قال الإمام النووي اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول." ولكن كل الذين ذكروا عاشوا في حقبة زمنية ماضية، ذات بيئة مجتمعية وحياتية تختلف زمانيًا ومكانيًا وظرفيًا عن عالم اليوم.
وأرى من الضروري أوّلًا أن نعرّف الْفِقْهُ عامة، فالفقه في اللغة يعني "الْفَهْمُ للشيء والعلم به، وفهم الأحكام الدقيقة والمسائل الغامضة، وهو في الأصل مطلق الفهم، وغلب استعماله في العرف مخصوصًا بـعلم الشريعة؛ لشرفها على سائر العلوم" ( راجع مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، وحرف الفاء (فقه) المكتبة العصرية-الدار النموذجية، 1420 هـ/1999 م)، أما الفقه في الدين أو في الشرع الإسلامي تحديدًا، فيمكن تعريفه بأنه (العلم بأحكام الشرع، وقد أطلق الفقه في العرف بغلبة الاستعمال على معنى الفقه في الدين، أي: المخصوص بكونه في الدين، والدين والشرع والشريعة بمعنى ما شرّعه الله على لسان نبيه من أحكام، وكل ما أتى به الرسول من عند الله" (نُقل بتصرّف من تحفة المحتاج شرح متن المنهاج، لابن حجر الهيتمي ج 1 ص 20- 21).
وهناك اختلاف تام وعام، وأحيانًا خاص ومحدّد، بين كل المدارس المذكورة آنفًا، والتي تنهج كلٌ منها فقهًا خاصًا بها. وهذا يؤسّس لمدارس خلافية، وحتى نكون أكثر موضوعية، فمن المؤكد أن هناك بعضًا من المشتركات فيما بينهم، وهناك بعضًا من الاتفاق أو التوافق في قضايا معيّنة أخرى، ولكن كل جماعة أو فرقة خصوصيتها إذ تُدعى باسمها الموصوف المعين، وهذا دليل على الخلاف والاختلاف، وأحيانا يؤشر على تناقض حاد.
ثم إن كل المدارس المذكورة أعلاه، تؤرخ لفقه ماضوي يضرب بجذوره في الماضي، إذ برز في حقبة زمنية معيّنة، ظهرت قبل 11 – 13 قرنًا (هذا إذا استثنينا السلفية الوهابية التي ظهرت قبل حوالي 3 قرون والتي تعد الأعقد فقهًا ونهجًا وسلوكًا وطريقًا، والتي منها انبثق الإرهاب والتطرف والتكفير والتزمت، والعنف بكل أشكاله وصوره.
ماذا أسّست لنا معظم هذه المدارس خاصة مدرسة ابن تيمية والوهابية وغيرها؟ إنها أسّست الدعوة للجهاد، وقتل اليهود والمسيحيين، وإلغاء الآخر، والرجوع الى الماضي السحيق، وما به من قبلية وعصبية وشدة وعنف وتخلف، مع فصل مجتمعي قطري ودولي، الأمر الذي أرجع بالعرب المسلمين السلفيين منهم إلى مرحلة البداوة. وهذا التشبث بالماضوي جعل من الفكر الإسلامي، والعربي تحديدًا، بكل تطلعاته ماضوية، الأمر الذي ألغى كل دفعات حضارية مستقبلية، ويصحّ هنا قول الدكتور علي الوردي "العرب أمة تعيش في الماضي، ولا تحسن التعامل مع الزمن الذي تعيشه، وهذا سبباً في تخلفها"، ويمكن أن يكون حديث ”الوردي” معمّمًا بعض الشي، ولكن هناك الكثير من المفكرين العرب حداثويون وليبراليون (الليبرالية هي فلسفة سياسية أو رأي سائد تأسّس على أفكار الحرية والمساوة). إن الماضوية لأمة العرب الإسلامية، جعلها متخلفة عن الحضارة الغربية التي تصنع الغد بقادتها وبعلمائها وبمفكريها، تصنع المستقبل المتحضّر بكل جوانبه العلمية والأدبية والعمرانية، أما الإسلام فما زال في قمقمه.
إن الفقه الإسلامي المؤسّس على لبنات البداوة والعصبية والقبلية، المشبعة بالبغضاء والكراهية والحقد، التي كانت سائدة قبل قرون، أصبحت اليوم لا تمت للحاضر بأي صلة، لأنها من عصر آخر، أن هذا الفقه، قذفنا إلى وسط بحر هائج، فأخفقنا للوصول والتكملة للجانب الآخر، ولم نستطع بذات الوقت الرجوع من حيث ابتدينا.
فقه المرحلة
أولًا، ليس من العقلانية أن تكون شريعة الله، شريعة عنف، وليس لله فقهًا يحث على قتل الآخر وإلغاء المخالف، ولو كان هذا موجود، وهو موجود فعلًا، بدلالة الكثير من النصوص منها "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة 29) فقد آن الأوان لإبطال هذه النصوص والبدأ بفقه مرحلة حياتية جديدة.
ثانيًا، إن الله لا يشرّع شرعًا غايته رمي عباده في النار والتهلكة، وأن الله لا يأمر بجهاد غايته قتل الآخرين، وفق قوله "يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم" (سورة التوبة الآية 73)، وأن الله لا يشرع شرعًا على لسان نبيه يفيد معنى قتال الآخرين أو أن يسلموا، كالحديث التالي (الحديث الثامن عن ابن عمر أن رسول الله قال البخاري ومسلم).
ثالثًا، المسلمون الآن هم أول ضحايا الإسلام كما قال أرنست رونان الفيلسوف والمؤرّخ، لأنهم أصبحوا عبيدًا لفقه دين ظلمهم أوّلًا. وهم أصبحوا كالجاهليين لكل منهم فرقة وفقه وطريقة ومنهج ومذهب خاص ينتمي إليه، مثلهم تمامًا مثل حياة العرب في الجاهلية، التي عبّر عنها موقع الدكتور الشيخ محمد صالح المنجد "إذا نظرنا أيها الإخوة إلى حياة الجاهلية قبل بعثة النبي ماذا كان فيها؟ كانوا يعبدون الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار ولكل قبيلة صنم مشهور، ورب منحوت، بل ربما كان لكل بيت في الغالب صنم خاص به، وكان في جوف الكعبة وحولها ثلاثمائة وستون صنماً."
رابعًا، إن المرحلة الآن يجب أن تكون مرحلة فقه التوافق والتعايش والمواطنة والإنسانية والتأخي، وليس فقه واحد أوحد وهو ”فقه الإسلام” فقط.
خامسًا، أرى أنه من مسؤولية الأزهر والمراجع الدينية ورجال الفكر الإسلامي التأسيس لفقه المرحلة؛ فقه يُبطل أو يحجب النصوص القائمة على فقه الموت والقتل والتكفير وإلغاء الآخر، والبدء في صياغة فقه المرحلة الذي يعترف بأن الحياة حق لكل البشر وليس للمسلمين فقط.