هل حقا حرف الكتاب المقدس؟ - مقالات
أحدث المقالات

هل حقا حرف الكتاب المقدس؟

هل حقا حرف الكتاب المقدس؟

محمد سعيد:

 

سأحاول هنا بهذه الدراسة أن أجيب عن الدعوة المضادة القائلة بتحريف الكتاب المقدس.

سنعطي في هذه الدراسة بعض الدلائل والغايات التي تجعل مجرد التفكير في التحريف شبهة لا تستلزم النظر إليها، فقد يسأل شخص ما – إذا لم يحرف الكتاب المقدس، فما هي وسيلة الاتصال التي تثبت لنا صدقيته؟

يمكننا اليوم أن نوضح صدقية الكتاب المقدس بمثال عصري، فخطوط الاتصال لها مُطلق أو مُنشئ للرسالة، فالمرسل هو الوسيط الذي تمرً من خلاله الرسالة، و المستقبل، أي السامع، و هذا المثال العصري يعنى بالاتصالات الهاتفية، مستخدم الهاتف الذي ينشئ الاتصال، و المرسل الهاتفي الذي يحوًل الرسالة إلى نبضات كهربائية، فالخطوط الهاتفية هي التي تحمل الموجات الكهربائية إلى المكان المقصود، و المستقبل الذي يعيد تحويل الرسالة من الموجات إلى أصوات، السامع و على نحو مماثل في السماء، فالله ينشئ أقواله ثم كلمته، و الناطق الرسمي بلسانه، المعروف بيسوع المسيح، يرسل في أغلب الأحيان الرسالة، و روح الله القدوس، القوة الفعالة التي تستخدم كواسطة للاتصال، و نبي الله على الأرض يتلقى الرسالة، بعد ذلك ينشرها للناس، و كما يمكن اليوم أحيانا أن يُرسل ساعي البريد لتسليم رسالة مهمة، كذلك اختار الله بعض الأنبياء أو رسلاً روحانيين أو ملائكة لحمل بعض الاتصالات من السماوات إلى الأرض (غلاطية 3: 19 عبرانيين 2 : 2).

أولاً: عملية الوحي.

إن العبارة "موحى به من الله" منقولة من الكلمة اليونانية "ثيونيوستس" التي تعني "من نَفًخ الله"، أي روح الله الخالص و قوته الفعالة، و هو ما "نفَخَه" الله في رجال أمناء جاعلاً إياهم يكتبون و يجمعون الأسفار، و هذه العملية تُعرف بالوحي، فالأنبياء و غيرهم من خدام الله الذين أصبحوا خاضعين للوحي، كانت أذهانهم مسوقة من هذه القوة الفعالة، و يعني ذلك أنهم تلقوا رسائل ذات قصد من الله، و أن هذه أصبحت راسخة بثبات في دارات أذهانهم: "لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (بطرس الثانية 1 : 21 يوحنا 20 : 21 – 22)، و كمثال على ذلك مسألة تأثر الرسول بطرس بصدق رؤيا التجلي، حتى أنه استطاع الكتابة بحيوية عنها بعد حدوثها بأكثر من ثلاثين سنة (متى 17 : 1 – 9 رسالة بطرس الثانية 1 : 16 – 21).

والوحي لغةً، هو الإعلام الخفي الخاص بمن يوَجُه إليه الوحي، بحيث يخفى على غيره، ومن هذا يتضح أن الوحي لغة، هو مطلق الإعلام، إذ يتم بين أي متلق لأي مرسل، و يجوز فيما يتعلق بالاستخدام اللغوي للوحي أن أوحي أنا إليك، و يجوز أن توحي أنت إلي أو إلى أي شخص أخر، و قد يكون الوحي بمعناه اللغوي، عن طريق الكتابة أو الكلام أو الرسم أو التعريض أو التلميح أو الإيماء أو الإشارة مرئية أو مسموعة، بحيث تصل من المرسل إلى المستقبل موحية باعتقاد معين أو بفكرة معينة أو بالدعوة إلى القيام بعمل معين، كما يكون الرسم من رسوم الكاريكاتير موحيا بفكرة من الأفكار.

وتستخدم كلمة "الوحي" بهذا المعنى اللغوي الواسع منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، في النثر الأدبي، كما أنها كانت ولا تزال تستخدم في الشعر العربي، ومن ذلك قول الشاعر:

نظرت إليها نظرة فتحيُرت

دقائق فكري في بديع صفاتها

فأوحى إليها الطرف أني أحبها

فأثُر ذاك الوحي في وجناتها

والوحي بمعناه اللغوي أيضا، قد يكون نابعا من الذات ويسمى إلهاما inspiration وقد يكون صادرا عن شخص أخر ويسمى إيحاء، suggestion وإذا كان الإلهام أو الإيحاء بالمعنى اللغوي ضارا يسمى وسوسة، delusion وإذا كانت الوسوسة متضمنة لوساوس قهرية مرضية نصبح إزاء حالة مرضية نفسية يطلقون عليها اسم. hypochondriasis.

ثانياً: كيف أوحى الله بالكتاب المقدس؟

لقد أوحى الله إلى نحو أربعة وأربعين كاتباً لصياغة كلمته المكتوبة، فكما يملك الإنسان اليوم أكثر من وسيلة واحدة للاتصال، كذلك أيضاً استعمل الله أساليب اتصال متعددة للوحي.

- الاملاء : بعث الله رسائل محددة أدرجت فيما بعد في سجل كتابي (مدرج)، مثلاً، فقد قال الله لموسى "أكتب لنفسك هذه الكلمات، لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهدا معك و مع إسرائيل..." (خروج 34 : 27)، و تلك الكلمات التي كانت بترتيب ملائكة نسخها موسى، و نجدها في سفر الخروج، اللاويين، العدد، و التثنية، و تسلًم أنبياء الله أخرون بمن فيهم إشعياء، إرميا، حزيقيال، عاموس، ناحوم، ميخا...رسائل محددة من الله بواسطة ملائكة، و أحيانا كان هؤلاء الرجال يستهلًون إعلاناتهم بالعبارة التالية: "هكذا يقول الرب" (إشعياء 37 : 6 إرميا 2 : 2 حزيقيال 11 : 5 عاموس 1 : 3 ميخا 2 : 3 ناحوم 1 : 12)، ثم كانوا يسجَلون كتابةَ ما قاله الله.

- رؤى أحلام: الرؤيا هي صورة أو مشهد، أو رسالة تغشى ذهن المرء، وعادةَ ما تكون خارقة للعادة والطبيعة، مثلاً، رأى بطرس ويعقوب ويوحنا رؤيا لتجلي يسوع "لمًا استيقظوا" (لوقا 9: 28 – 36 بطرس الثانية 1: 16 – 21)، وفي بعض الحالات نُقلت رسالة في حلم أو رؤيا، إذ انطبعت عند نائلها في الوعي أثناء نومه، وهكذا كتب دانيال عن "رؤى رأسي على فراشي"، أو كما ينقلها المترجم "رونالد نكص": "وأنا مستلق أشاهد في حلمي" (دانيال 4: 10)، فقد كان الشخص أو النبي الذي يجعله الله في غيبة يستغرق كما يبدو في حالة من التركيز العميق، مع كونه على الأقل شبه مستيقظ (قارن أعمال الرسل 10 : 9 – 16)، إن الكلمة اليونانية المنقولة في الكتاب المقدس إلى "غيبة" (أكستاسيس) تعني "إزاحةَ أو نقلا"، و هي توحي بتغيير حالة الفكر الطبيعية، و هكذا يكون النبي الذي في غيبة غافلا عما حوله و مستعدا لتسلم الرؤيا، و قد كان الرسول بولس على الأرجح في غيبة كهذه عندما "أختُطف إلى الفردوس و سمع كلمات لا يُنطق بها و لا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها" (كورنثوس الثانية 12 : 2 – 4)، و في تباين مع الذين سجًلوا رسائل أملاها عليهم الله، فإن كتبة الكتاب المقدس الذين نالوا رؤى و أحلاما، كانت لديهم بعض الحرية في وصف ما رأوه بكلماتهم الخاصة، فقد قيل لحبقوق "أكتب الرؤيا و أنقشها على الألواح لكي يركض قارئها (يقرأها بطلاقة)" (حبقوق2 : 2)، فهل يعني هذا أن أجزاء الكتاب المقدس هذه ليست موحى بها؟ لا أبداً، فالله بواسطة روحه غرس قوة رسالته في ذهن كل كاتب، بحيث نُقلت أفكار الله، في حين سمح الله للكاتب بأن يختار الكلمات المناسبة، فقد وجًه ذهن الكاتب وقلبه لكيلا تُحذف أية معلومات أساسية، ولكي تُعتبر الكلمات في النهاية بشكل لائق كلمة الله (تسالونيكي الأولى 2: 13).

- الإعلان الإلهي : يحتوي الكتاب المقدس على نبوات، و تاريخ مُعلن و مكتوب مسبقا – و هذا يتجاوز إلى حد بعيد مجرد القدرة البشرية، و أحد الأمثلة هو قيام و سقوط ملك اليونان "الإسكندر الكبير"، الذي أنبأ به قبل ذلك بنحو 200 سنة (دانيال 8 : 1 – 8، 20 – 22)، و يعلن الكتاب المقدس أيضاً حوادث لم ترَها قط عين إنسان، و خلْق السماوات و الأرض هو مثال لذلك (التكوين 1 : 1 – 27، 2 : 7 – 8)، و هنالك أيضاً المحادثات التي جرت في السماء كتلك المذكورة في سفر أيوب (أيوب 1 : 6 – 12، 2 : 1 – 6)، و إن لم يعلن الله مباشرة مثل هذه الحوادث للكاتب، فقد جعلها معروفة عند بعض الأشخاص لكي تصير جزءا من التاريخ الشفهي، أو المكتوب الذي تتناقله الأجيال إلى أن تصير جزءا من سجل الكتاب المقدس، فيمكننا أن نكون على يقين بأن الله هو مصدر كل هذه المعلومات، و أنه وجًه الكتبة لئلا تفسد رواياتهم بسبب عدم الدقة أو المبالغة، أو الأسطرة، فقد كتب الرسول بطرس بشأن النبوة: "تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (بطرس الثانية 1 : 21).

ثالثا: شهادة الله بعدم زوال كلمته.

في الكتاب المقدس عدة إعلانات عن الله ووعوده بأن كلمته لا يمكن أن تزول أو تبدل، وقد أخذنا منها هاته الفقرات الكتابية:

- "أما رحمتي فلا أنزعها عنه ولا أكذب من جهة أمانتي، لا أنقض عهدي، ولا أغير ما خرج من شفتي" (مزمور 89: 33 – 34).

- "فإني أقول لكم، إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (إنجيل متى 5: 18).

- "الحق أقول لكم، لا يمضي هذا الجيل، حتى يكون هذا كله، السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول" (إنجيل متى 24: 34 – 35).

- "لا يمكن أن ينقض المكتوب" (إنجيل يوحنا 10: 35).

رابعاً: شهادة الأنبياء والرسل لأنفسهم.

لقد شهد أنبياء الله بأن الله تكلم إليهم، وأوحى إليهم أن يكتبوا نبواتهم وتعاليمهم لتكون شريعة أبدية، وها نحن نورد هنا البعض منها.

قال الملك النبي داوود "روح الرب تكلم بي وكلمته على لساني" (صمؤيل الثاني 23: 2)، وقال النبي إشعياء "فتشوا في سفر الرب، واقرأوا واحدة من هذه لا تفقد، لا يغادر شيء صاحبه لأن فمه هو قد أمر، وروحه هو جمعها (إشعياء 34: 16)، "حقا العشب عشب، يبس العشب، ذبل الزهر، وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (إشعياء40: 6 – 8)، وقال النبي إرميا "ثم صارت كلمة الرب إلي قائلاً: ماذا أنت راء يا إرميا؟ فقلت: أنا راء قضيب لوز، فقال الرب لي: "أحسنت الرؤيا لأني ساهر على كلمتي لأجريها" (سفر إرميا1: 11 – 12)، وقال النبي حزيقيال "وكان عند تمام السبعة أيام، أن كلمة الرب صارت الي قائلة: "يا ابن أدم، قد جعلتك رقيبا لبيت إسرائيل، فاسمع الكلمة من فمي، وأنذرهم من قبلي" (سفر حزيقيال30: 16 – 17).

و قال المسيح لتلاميذه : "لستم أنتم المتكلمون، بل روح أبيكم المتكلم فيكم" (إنجيل متى 10 : 20)، و قال الرسول بولس: "و نحن لا نأخذ روح العالم بل روح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، نتكلم بها أيضاً، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل ما يعلمه الروح القدس" (كورنثوس الثانية 12 : 13)، و قال الرسول بطرس: "مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد، لأن كل جسد كعشب، و كل مجد إنسان كزهر عشب، العشب يبس، و زهره سقط، و أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (بطرس الأولى 1 : 23 – 25).."إن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (بطرس الثانية 1 : 20).

خامساً: شهادة الله لأنبيائه الموحى إليهم.

قال الله لارميا النبي: "لا تخف من وجوههم لأني أنا معك، ها قد جعلت كلامي في فمك" (سفر إرميا1 : 8 – 9)، و قال للنبي هوشع: "و كلمت الأنبياء و كثرت الرؤى، و بيد الأنبياء مثلت أمثالا" (سفر هوشع 12 : 10)، و أيضاً قال للنبي إشعياء: "أما أنا فهذا عهدي معهم يقول الرب، كلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك، و لا من فم نسلك إلى الأبد" (سفر إشعياء59 : 20)، و قال الرب لحزيقيال النبي: "يا ابن أدم، قم على قدميك فأتكلم معك، أنا مرسل إلى بني إسرائيل و إلى أمة متمردة، من كلامهم لا تخف، من وجوههم لا ترتعب لأنهم بيت متمرد، و تتكلم معهم بكلامي" (سفر حزيقيال2 : 1 – 8)، و قال لملاخي النبي: "فتعلمُون أني أرسلت إليكم هذه الوصية، ليكون عهدي مع لاوي، قال رب الجنود: "كان عهدي معه للحياة و السلام، و أعطيته إياهما للتقوى، فإتقاني...شريعة الحق كانت في فمه" (سفر ملاخي 2 : 4 – 6)، و يقول الرب لزكريا النبي: "و لكن كلامي و فرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء لم تدرك أباءكم، فرجعوا و قالوا: كما قصد رب الجنود أن يصنع بنا كطرقنا و أعمالنا كذلك فعل بنا" (سفر زكريا 1 : 6)

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث