انتصار طالبان إذ يلثم قروح "الهزائم السُنية" - مقالات
أحدث المقالات

انتصار طالبان إذ يلثم قروح "الهزائم السُنية"

انتصار طالبان إذ يلثم قروح "الهزائم السُنية"

رستم محمود:

 

فيما يُمكن تسميتها بمنطقة جنوب وشرق المتوسط، التي تضم تركيا إلى دول بلاد الشام والعراق، وبشكل استثنائي في دولة اليمن، كان الاحتفاء بما حققته حركة طالبان في أفغانستان خلال الأيام الماضية يمتاز بخاصيتين ذات دلالة: فمن جهة كان هذا الاحتفاء فائضاً، اندمجت فيه قوى سياسية وطبقات نخبوية وقواعد شعبية كثيفة، بكثير من التهليل والتبريك، فاق كل أشكال الاحتفال التي حدثت في البُلدان الأخرى من العالم الإسلامي، بما في ذلك أفغانستان نفسها!

الخاصية الثانية كانت تكمن في وضوح الشرخ الطائفي/المذهبي في هذا الاحتفاء، إذ ظهر جلياً كيف أنه بمعنى ما مُجرد "فرح سُني"، مقابل مزيج من الامتعاض والدهشة والاستنكار العمومي الذي أصاب أبناء الجماعات الدينية والمذهبية المُسلمة الأخرى.

المبتهجون في هذه المنطقة نفسها، كانوا قد راكموا طوال عقد كامل مضى حساً دفيناً بالاستهداف والهزائم السياسية والميدانية التي تعرضوا لها، كـ"طائفة سُنية".

فمن لبنان إلى العراق، مروراً بسوريا واليمن والمناطق الفلسطينية، وإلى حد ما في مصر نفسها، كان ثمة نوع من الوعي الديني/الطائفي الذي يقول إن الطائفة السُنية مُستهدفة في هذه المناطق، ومحاولة مستديمة لتحطيمها سياسياً وعسكرياً، وإخراجها من الفاعلية والدور، وإلى حد بعيد تحطيم مناطقهم وتنفيذ سياسات من التغيير الديموغرافي بحقهم، كما كان يشعر ذلك النوع من الوعي.

هذا الوعي بالمظلومية السُنية تكثف خلال هذه المرحلة بشكل استثنائي لدى القوى السياسية والجماعات المسُلحة ذات النزعة الدينية في هذه البُلدان، وتسرب منها إلى نسبة عالية من القواعد الاجتماعية المؤيدة لها.

حيث أن هذه القوى السياسية الدينية وجماعاتها المُسلحة تحولت من مُجرد تنظيمات دينية إسلامية، في خطاباها وديناميكيات فعلها ووعيها لنفسها، تحولت إلى تنظيمات وجهات سُنية في تلك الخصائص، حيث صار "التسنن" يشكل جوهر عالمها الداخلي، والمؤشر الذي تتخذ حسبه سياساتها ومواقفها.

هذا التحول داخل هذه التنظيمات السياسية وقواعدها، من مؤسسات وأحزاب وجماعات دينية إسلامية إلى قوى ومؤسسات وأحزاب سُنية حصراً، بدأ بالتشكل منذ أوائل الثمانينيات، مع الحرب العراقية الإيرانية وأحداث حركة الإخوان المسلمين ضد النظام في سوريا وصعود القوى الشيعية اللبنانية في أوائل الثمانينيات، ولعقدين كاملين بعد ذلك، عاشت المنطقة توازناً مُرعباً بين هذه الجماعات السُنية ونظيراتها الأخرى.

لكن، ومنذ إسقاط النظام العراقي الأسبق عام 2003، ومع أحداث الربيع العربي والتمدد الإيراني إلى مختلف الدول ومساهمته في محاربة وهزيمة التنظيمات الإسلامية/السُنية عسكرياً، صارت هذه التنظيمات تستشعر بمُظلومية هائلة، وتخلق في سبيلها ولأجلها رافعتين ومقولتين جوهريتين في خطابها ووعيها لنفسها.

تقول الأولى إن أبناء الطائفة السُنية، وقواهم السياسية، مُستهدفون من قِبل الدول والسياسات الغربية في هذه المنطقة، بالذات من قِبل استراتيجية الولايات المُتحدة الأميركية في المنطقة، لأن أبناء السُنة هؤلاء وقواهم السياسية يشكلون جوهر وأصالة الهوية الدينية والثقافية المناهضة لذلك الغرب وتدخلاته في المنطقة، ولهم تاريخ مديد في الوقوف في وجه ذلك الغرب، ولأجل ذلك يمارس هذا الغرب نوعاً من الثأر التاريخي منهم.

أما الرافعة الثانية فكانت تقول إن أبناء المذاهب والطوائف المُسلمة من غير السُنة، الشيعة والعلويين والزيديين بالأساس، والإسماعيليين والدروز بدرجة أقل، أنما شركاء ومناصرون وحلفاء موضوعيين غير مُعلنين لذلك الغرب في معادته تلك. حيث كانت سردياتهم مُتخمة بعدد لا نهائي من الحكايات والمقولات التي تدل كيف أن تلك المعاداة الغربية موجودة منذ أمد بعيد، وكيف أن أبناء تلك الجماعات الدينية المسلمة غير السُنية مساهمة في ذلك. وطبعاً كانوا يضيفون النُخب العسكرية و"العلمانية" إلى ذلك التحالف المُعادي، حسب رأيهم.

المقولتان السُنيتان الراهنتان كانتا نسخة متحولة لما كان قد حملن عموم المسلمين تجاه الغرب وعلاقته بمسيحيي منطقتنا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لكن راهناً صار ضد التشكيلات المُسلمة "غير المركزية، بعد اضمحلال المسيحيين وصعود هؤلاء الأخيرين.

أحداث السنوات العشرة الماضية، في لبنان سوريا العراق واليمن، وإلى حد ما في مصر، حيث اعتبرت التشكيلات السياسية والعسكرية ذات السمات السُنية نفسها وقد تعرضت لـ"هزائم وانكسارات" ماحقة، واعتبرت إن تلك "الهزائم والانكسارات" أنما تأتت من ذلك التآمر الغربي وتحالفها الموضوعي مع الجماعات الإسلامية غير السُنية.

أوجد ذلك جروحاً غزيرة في الذات الجمعية للجماعات والقواعد الاجتماعية السُنية، مع استجرار للمرارة وشعوراً باستحالة الفكاك من تلك الهزائم المتتالية. خصوصاً أنها كانت تملك وعياً تاريخياً بالمركزية والسطوة التي تملكها الجماعات ذات الأغلبية العددية والغلبة الثقافية والروحية والسياسية.

أحداث أفغانستان قلبت الطاولة على كُل الجروح والمرارة والشعور بالحصار.

فالوعي السُني اعتبر ما جرى في أفغانستان دلالة على أن أضعف التشكيلات العسكرية/السياسية السُنية، وبالرغم من حرب مستعرة ضدها لعقدين كاملين، اشتركت فيها مُختلف القوى الدولية بالتحالف من أنظمة الحُكم العسكرية الإقليمية، وبالرغم من شراكة أبناء الجماعات الدينية الأفغانية غير السُنية في تلك الحرب، أنما لم تنجح في المُحصلة تحطيم الذات السياسية لهذه الجماعة السُنية، وتمكنت هذه الجماعة الهامشية من تحقيق "انتصار" بالضربة القاضية، وحققت نصراً عسكرياً وسياسياً ونفسياً استثنائياً لجماعة سُنية ما، يُمكن له أن يُعطي طاقة وأملاً لباقي الجماعات والتشكيلات السُنية في المنطقة، يقول إنه ثمة ما هو مُمكن غير هذه الوقائع الجاثمة.

ما حدث في أفغانستان يمنح هذه الجماعات الإسلامية/السُنية غبطة واحتفاء بالذات، ولأن تلك المشاعر تأتي بعد سنوات كثيرة من الشعور بالاستهداف والهزيمة، فأنها كانت مشاعر هيجانية وطافحة، ولأجل ذلك بالضبط، فأنها تغاضت عن بعض المُعطيات التي اعتبرتها مُجرد تفاصيل هامشية، مثل دور طالبان التاريخي والتقليدي في ربط الإسلام السُني بالتطرف والعنف والإرهاب، ومثل أن طالبان ستدفع ملايين الأفغان للفرار من بلادهم، وهؤلاء البؤساء أنما هُم أناس من أبناء الجماعة السُنية، وغيرها من الأفعال المتعلقة بتدمير بلد مثل أفغانستان وتحطيم مستقبل شُبانه ونسائه، واستقطاب التنظيمات المُتطرفة من جميع أنحاء العالم.

إنها غبطة الذات الجريحة، الصماء والعمياء، ولا تعرف من الكلام والتعابير إلا الزغاريد.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث